الحوزة العلمية... بين بر التاريخ والجغرافيا وبحار السياسة!

 

بني جمرة- قاسم حسين

 

زرنا إحدى الحوزات القائمة في البحرين، وهي حوزة الإمام زين العابدين (ع) في بني جمرة، لنقف على ما وراء الأبواب، تعرفاً وبحثاُ وحباً في الاستطلاع. ذهبنا مستكشفين لهذا العالم الهادئ هرباً من السياسة وأخبارها التي لا تسر، فإذا بلعنتها تلاحقنا في ذلك الجامع المنعزل، حيث يعيش سكينة الروح وطمأنينة الإيمان الوقور. هناك تحدثنا إلى مدير الحوزة الشيخ على فاضل الصددي، بحضور الإداري السيد طالب محمد حسن. في البداية سألنا عن هذا الاسم الشائع من أين جاء، فأجاب الشيخ الصددي:

 

-       ربما أخذ الاسم من فعل: حاز، أي  جمع ، لأنها تضم الكثير من العلوم.

 

-       ومتى برز هذا الكيان لأول مرة في التاريخ؟

 

-       برزت الحوزة في النجف الأشرف، مدفن الإمام علي (ع) في الكوفة قبل أكثر من ألف عام، ولكن قبلها وجدت حوزة بغداد...

 

-       في بغداد عاصمة العباسيين وجدت حوزة؟

 

-       نعم، أيام الشيخ المفيد، ومن تلامذتها الشيخ الطوسي والشريفان الرضي والمرتضى، في حدود القرن الرابع الهجري. كما كان في بغداد أيضاً الشيخ الطوسي ولكنه ارتحل إلى النجف سنة 449 هـ، وبوجوده فيها قويت وانتعشت حوزة النجف، مع أن من الأخطاء الشائعة انه هو الذي أسسها.

 

-       وما هو ارتباط هذه المواقع بالمدينة المنورة مثلاً؟

 

-       كان الإمام الصادق (ع) يبث علومه في مسجد جده رسول الله (ص) بالمدينة، ومن هناك انتشر تلامذته في الأقطار.

 

-       والمدن الأخرى؟

 

-       حوزة الحلّة وكربلاء وسامراء جاءت في فترات لاحقة، فرغم وجود حوزة النجف كان بعض المراجع الدينيين يؤثرون الرحيل إلى مناطق أخرى ككربلاء أو سامراء، فترحل معهم الحوزة، ولكن سرعان ما تتراجع لصالح الحوزة الأم في النجف، لتبقى مجرد مدارس.

 

-       يعني عندما ينتقل المرجع تنتقل معه ثلاثون أو أربعون أسرة؟!

 

-       نعم، بل بمجرد انتقاله إلى مدينة أخرى تنتقل معه مئات الأسر، إذ يصحبه بعض أو كل تلامذته، فالحوزة ليست كالمدرسة المنتظمة، وانما لكل مرجع تلاميذ، وهؤلاء لديهم تلاميذ يدرسونهم.

 

-       وبالتالي يرتحلون مع زوجاتهم وأولادهم؟!

 

-       نعم، فجهاز المرجعية عندما ينتقل فانه يؤسس هناك مدارس ويقيم صلوات جماعة فتنتعش القرى، لا تتصور أنها 20 أو 30 عائلة، فبعض المراجع ربما لديهم مائتا تلميذ.

 

-       إذا أردنا أن نتوقف عند المحطات الرئيسية في تاريخ الحوزة...

 

-       هناك فترة محمد ابن إدريس سبط الشيخ الطوسي (جده لأمه) في النصف الثاني من القرن السادس حيث نشطت الحركة العلمية في (الحلّة) بوجوده.

 

-       والطبرسي؟

 

-       لم يكن لامعاً على مستوى الحوزات وانما شهرته في مجال التفسير.

 

-       وبعده؟

 

-       وفي منتصف القرن السادس الهجري عادت الحركة العلمية إلى النجف الأشرف، واستمرّت حتى منتصف القرن الثاني عشر حيث  انتقلت إلى( كربلاء) لوجود الآغا محمد باقر المعروف بالوحيد البهبهاني، ومعاصره آنذاك هو الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق.

 

-       وبعدهما؟

 

-       في أوائل القرن الثالث عشر عادت الحركة العملية النجف الأشرف ثالثة على يد السيد محمد مهدي الطباطبائي المعروف "بحر العلوم".

 

-       وما سر هذه التسمية؟

 

-       اسمه السيد محمد مهدي ولقب بذلك لسعة علمه، ولثقله المرجعي والعلمي، وله مؤلفات في الرجال وغيرها، إضافة إلى رصيده الروحي المنقطع النظير.

 

-       وبعد بحر العلوم؟

 

-       صاحب الجواهر، محمد حسن النجفي،(القرن 13 هـ).

 

-       وما هو الجواهر؟

 

-       جواهر الكلام هو دورة فقهية لجميع أبواب الفقه، في 43 مجلداً (وأشار  إلى مجلدات خلفه في المكتبة)، وكانت شرحاً لشرائع الإسلام. ثم تأتي مرحلة الشيخ مرتضى الأنصاري صاحب الثقل المرجعي، والذي اختير بإشارة من صاحب الجواهر مع انه لم يكن من تلامذته. ولازالت مؤلفاته تدرس حتى الآن في الحوزات. ومن تلامذته البارزين محمد كاظم اليزدي (صاحب العروة الوثقى) ومحمد كاظم الخراساني (صاحب كفاية الأصول)، وكانا على طرفي نقيض في قضية المشروطة والمستبدة في إيران.

 

-       أي أن السياسة فرقتهما...وبعد الكاظمين؟

 

-       بعدهما برز مراجع كثيرون، فمن تلامذة الخراساني: النائيني والأصفهاني والعراقي، وكل منهم يعتبر مدرسة أصولية، وعلى أيدي الثلاثة درس الإمام الخوئي.

 

-       خليجياً... أين تقف الحوزة؟

 

-       أبرز الحوزات خارج إيران والعراق كانت في البحرين، حيث ارتحل إليها بعض العلماء كوالد الشيخ البهائي المدفون في مقبرة (أبو عنبرة) شمال البلاد القديم، وقد جاءها من الحج وآثر البقاء فيها على الرجوع إلى موطنه جبل عامل.

 

-       وما هي منزلة حوزة البحرين؟

 

-       تميزت البحرين بوجود علماء أكثر مما برزت كحوزة، من هؤلاء السيد هاشم التوبلاني (صاحب تفسير البرهان)، والشيخ ميثم البحراني (شرح نهج البلاغة). ومرت بالبحرين أسماء ثلاثة من العلماء البارزين: الشيخ يوسف صاحب الحدائق النضرة، وابن أخيه الشيخ حسين العصفور، والشيخ عبدالله الستري، الذين نجد صداهم حتى الآن.

 

-       وما هي العلاقة التي حكمت الحركة العلمية بالخارج؟

 

-       كانت علاقة تكميلية، فأنت تدرس هنا ثم تكمل دراستك العليا في قم أو النجف، أو تبدأ بالهجرة إلى هناك. فالعلاقة علاقة تكامل.

 

-       وأين تقف حوزة "زين العابدين" في بني جمرة اليوم؟ وما هو تاريخها؟

 

-       طبعاً تأسست هذه الحوزة في العام 1985 على يد سماحة العلاّمة المجاهد الشيخ عبدالأمير الجمري(سلّمه الله).

 

-       ولماذا سميت بهذا الاسم؟

 

-       لأنها أقيمت في جامع يحمل الاسم نفسه.

 

-       وكم من الطلبة ينتسبون إليها؟

 

-       قبل الأحداث كان ينتسب إليها حوالي مائة شخص بين طالب وأستاذ، ولكن بعد الأحداث تناقص العدد، ويبلغ عدد منتسبيها الآن 62 شخصاً، كما أنه يوجد لدينا عدد آخر بعنوان المستفيدين _ بمعنى أن الحوزة لا تتكفل برعايتهم رعاية تامة باعتبار الميزانية _ وربما بلغ عددهم عشرة أشخاص وباب التسجيل موصد.

 

-       ولماذا أوصدتم باب الالتحاق؟

 

-       بسبب الجانب المالي، فميزانيتنا الشهرية 11 ألف دينار، ونحن نعتمد على الحقوق الشرعية. فإذا كان الوارد لا يغطي ميزانية الحوزة عليك أن تتوقف.كما أن الحوزة قد يكون نظرها مدى حاجة المجتمع واكتفائه في عدد الطلبة.

 

-       وهل هناك تنسيق بينكم وبين الجامعات في الخارج؟

 

-       هناك تنسيق مع بعض الجامعات في قم، إذ تقبل شهادتنا لديهم، بل يأخذون نتائج الطالب وبدون تحديد مستوى أو امتحان ليواصل الدراسة هناك اعتماداً على قوة التحصيل العلمي ورقابته في حوزتنا.

 

-       وما هو دور الشيخ الجمري؟

 

-       كان هو مؤسس الحوزة ومديرها على مدى عشر سنوات (85-95)، وكان مدرساً للسطوح العليا.

 

-       أشرتم إلى الأحداث وتأثيرها على أعداد الطلبة... فإلى أي مدى تأثرت الحوزة؟

 

-       لم تؤثر عليها في البدء، فقط اعتزل الشيخ الحوزة بسبب انشغاله وبقي له دور المدرس والمشرف. ولكن أثناء الأحداث دوهمت الحوزة بتاريخ 1/4/1995 وأغلقت أبوابها بالشمع الأحمر وكسرت الأبواب ومزقت بعض الكتب، وكتب الشيخ بالذات، وكتبت عليها كلمات نابية، ورميت كل هذه الكتب التي تراها في المكتبة على الأرض حتى فترة المبادرة. طوال تلك الفترة لم نفتحها، ثم بعد السجن الأخير للشيخ (قبل الميثاق) فتحت وأعيد تسجيل الطلبة لتنتظم فيها الدراسة من جديد.

 

-       )هنا استدرك السيد طالب قائلاً): من الاعتقال الأول في 1/4/1995 حتى فترة المبادرة 25/9/1995) ثم فتحت، حتى السجن الثاني للشيخ بداية العام 1996، بعدها أغلقت مرة أخرى حتى فك الحصار عن منزل الشيخ واستمر فتحها بصورة رسمية حتى الآن.

 

-       وانتم هل دخلتم المعتقل؟

 

-       نعم.

 

-       ولماذا؟

 

-       بسبب القرب من الشيخ، فالأسئلة الأولى كانت : ما هي أسرار الشيخ. والتعذيب الذي نالنا بسبب ما أسموه "أسرار الشيخ".

 

-       ولكن الشيخ الذي في قلبه على لسانه، وكل ما كان لديه يصرح به في خطبه، فأية أسرار هذه؟

 

-       مع ذلك، كان المحققون يتوجسون، وكانوا يعتقدون أن الشيخ يقول شيئاً ويخفي شيئاً آخر، لقد طالني التعذيب الجسدي المرهق لأنهم كانوا يريدون مني أن أقول أنّ الشيخ كان يحّرض على الحرائق، (هنا استدرك السيد طالب قائلاً) بل عرضت صور على التلفزيون كاعترافات على أن الشيخ كان يحرض على ذلك من أناس عاديين لم تكن تربطهم علاقة بالشيخ الجمري، كانوا يأتون إليه كمستمعين لمجلس حسيني يقيمه أسبوعياً في مجلسه.

 

-       ألم يؤثر غياب الشيخ عنكم؟

 

-       فقط توقفت الحوزة في فترتي اعتقاله. أما في فترة علاجه فاستمرت رغم مرورها بظروف مالية سيئة.

 

-       وماذا تتوقعون من الشيخ وهو الآن في أزمة صحية ؟ (قالا بنبرة عرفان الطالب للأستاذ):

 

-       وجوده يكفي كعزٍّ لنا، فالشيخ كان وكيلاً, وإمام جماعة ومؤسس للحوزة كما أسلفنا، وكل هذه النتاج من فضل الله ومن فضل الشيخ، نتمنى أن يستعيد عافيته ويعود ليدرس ولا عُدمنا وجوده.

 

-       وأين النساء في الحوزة؟

 

-       الحوزة كلها رجالية.

 

-       أليس هناك مشروع للمستقبل؟

 

-       نحن نلاقي صعوبات، ولكن يتفرع عن الحوزة مكتبة تاريخ وتراث البحرين، وهي في بداياتها الآن، وأعلنا عن تنظيم مسابقة عن تاريخ البحرين في مارس الماضي، وهي عبارة عن مسابقة بحثية تاريخية لها شروط ومحاور، ولجنة تحكيم من أساتذة ودكاترة، مع رصد 3 جوائز (1000، 750، 500 دينار)، إلى جانب 4 جوائز تقديرية، كلها من التبرعات وليست من الحقوق الشرعية، ووصل عدد المشاركين إلى 20 شخصاً، وآخر موعد لاستلام المشاركات 30 يوليو.

-       وما هي شروط الالتحاق في الحوزة؟

 

-       أن يكون المتقدم خريج ثانوية عامة بنسبة لا تقل عن جيّد، حسن السيرة والسلوك، وأن يلتزم بالإنضباط في الحضور وعدم التخلّف والغياب، ويوجد في قانون الحوزة بعض الضوابط منها أن لا يتكرّر غياب الطالب أكثر من 18 يوماً  دون عذر مقبول وبعده يتم فصله مضافاً إلى أنّ الحوزة ملتزمة بإجراء امتحانات دورية للطلبة.

-       وهل حدث مثل ذلك؟

 

-       نعم.

 

-       كمؤسسة اجتماعية، ما هو تعاطيكم مع الصندوق الخيري مثلا؟

 

-       الحوزة برجالاتها محل استرشاد للصندوق الخيري، نعم توجد لجنة للحقوق الشرعية بمكتب الشيخ الجمري تتعاون مع مختلف الصناديق الخيرية، من حيث توثيق المعلومات والتصديق على الرسائل، وقد تحيل علينا بعض الصناديق بعض الطلبات.

 

-       وهل لديكم قدرة على توفير الطلبات؟

 

-       في الغالب ليس للجنة الحقوق الشرعية احتياطي.

-       وما هو الدور الذي تقوم به الحوزة اجتماعياً؟

 

-       الهمّ الأكبر للحوزة تخريج كفاءات علمية كالإرشاد والتبليغ ولمعاضدة بقية النخب في النهوض باحتياجات المجتمع، وكثير من الطاقات العلمية التي تجدها في المجتمع هي من نتاج الحوزة، كما يوجد لدى الحوزة ليلة أو ليلتين تستقبل فيها المراجعين من الناس وتتابع قضاياهم وتسهم في حلّ مشاكلهم ومن الواقع تمثِّل الحوزة مركزاً هامّاً للمراجعين على شتّى الأصعدة.

 

-       وما هي آفاق المستقبل أمام الخريج؟

 

-       بعضهم يعمل مبلغاً، أو مدرساً، وكثير من أنشطة المجتمع تكون على عاتق طلبة العلوم المتخرّجين من الحوزة، كما أنّ الحوزة بصدد تخريج كوادر قادرة على عمل مشاريع فكرية،وكل هذا يعتمد على روافد الحوزة في المستقبل.

 

-       وهل تعطونم شهادة؟

 

-       نحن لا نعطي شهادة، نعم يمكن لإفراد المجتمع الإستفهام المباشر عنه