مجتمعات الثقوب السوداء

هل يتمكن العالم العربي من أن يبدع تجربة إصلاحية جديدة ؟

مجتمعاتنا العربية اليوم يتنافس علي إصلاحها الفاسد والمفسد والأفسد، فهناك أمريكا من الخارج، والسلطات الرسمية من الداخل، والقوي التكفيرية تسرح وتمرح بين الداخل والخارج، وليس من المهم تحديد الفاسد من المفسد من الأفسد، لأنّ النتيجة لن تكون مختلفة على جميع التقادير مادامت هذه هي الجهات التي تبتغي الإصلاح في عالمنا العربي وترفع شعاراته، نعم.. الشيء المؤكد أن المجتمع العربي سيكون هو الخاسر في جميع الأحوال، ولذا ليس من المبالغة في شيء أن يشبّه ''خالد الحروب'' في مقال له نشر بجريدة الحياة بتاريخ 15/6-2004 مشاريع الإصلاح التي تقاطرت علي عالمنا العربي بالعدوان الثلاثي علي العرب في 56، والعدوان هنا يتم لإصلاح المجتمع العربي من قبل : الخارج، والدولة والتعصب الديني.

وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، اتضحت معالم ثقبين أسودين في فضاء المشروع الإصلاحي، وكان يكفي كل منهما لابتلاع أكبر دعوات الإصلاح في هذا العالم، لأنها لم تقم علي الدوام إلا علي شفا جرف هار، فكان من الطبيعي ألا تنجح وألا تفلح، وتمثل هذان الثقبان في المشروع الأمريكي التغريبي من جهة، والمشروع السلفي التكفيري من جهة أخري، وبعد الحادي عشر من سبتمبر تناغمت الحكومات العربية مع دعوات الإصلاح، بل رفعت عقيرتها بكل قوة منادية بضرورة الإسراع في إنجازها، وصار الحكام العرب يتنافسون علي من يحظي بلقب ''المصلح العربي'' في هذا العصر، ولكن ما أحدثته الحكومات العربية ورؤساؤها في نسيج الإصلاح لم يكن سوي ثقباً أسود آخر، حتى اتسع الخرق على الراقع، واكتملت أركان العدوان الثلاثي على مجتمعاتنا العربية المسكينة.

 

ويفصح ''تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 4200'' في ص (41-15) عن ماهية الثقب الأسود الذي تتمثله الحكومات العربية عبر أدائها في المجتمع العربي بالقول : (قد يبدو من الصعب لأول وهلة الحديث عن ملامح مشتركة لنظم الحكم في العالم العربي، وذلك بسبب التنوع الكبير في الأنظمة القائمة التي تتراوح بين الملكية المطلقة، والجمهورية الثورية، والراديكالية الإسلامية، ولكن مزيداً من التأمل يكشف عن تقارب مثير للاهتمام في بنية وأساليب نظم الحكم العربية.

 

تجسد الدولة العربية الحديثة إلي حد كبير التجلي السياسي لظاهرة ''الثقب الأسود'' الفلكية، حيث تشكل السلطة التنفيذية ''ثقباً أسود'' يحول المجال الاجتماعي المحيط به إلي ساحة لا يتحرك فيها شيء ولا يفلت من إسارها شيء).

 

وفي ضوء هذا الوضع الذي تعددت فيه الثقوب السوداء، كما تتعد أسباب الموت، والموت واحد، لا أدري هل يبقي أيّ مجال للتساؤل عن : ما هو السبب وراء انعدام مساحة الإبداع وغياب إمكانيات التطوير وانسداد آفاق الإصلاح في المجتمع العربي المعاصر؟

 

وقبل أن نتعرف علي ما يمكن أن يكون معيقاً لمهام الإبداع والتطوير والإصلاح والتغيير إلي الأفضل والأحسن، فلنحاول أن نتفهم ما هو الإبداع أولاً.

 

ومن دون تعقيدات مربكة يمكننا القول : إن الإبداع هو فعل يعتمد التجديد والابتكار والخلاقية، وهو أيضاً انطلاق ذهني أو شعوري أو عملي في مساحات جديدة، وقدرة علي اكتشاف فضاءات غير مرتادة من قبل الآخرين، والإبداع يترادف مع التطور والتغيير إلي الأفضل والأحسن والأكمل، وهو من خلال ذلك يتحول إلي ضرورة حياتية حينما يفتقد المجتمع القدرة علي القيام بها فلا مناص من وقوعه في براثن التخلف والجمود والانحطاط، وهكذا يمكن أن تتحول مساحات الإبداع والتجديد في فترات زمنية من حياة بعض الأمم إلي مناطق محظورة لا يجوز ولا يمكن ارتيادها في ظل المقتضيات المفقودة والموانع الموجودة، إذ كلـّما زادت الموانع وقلـّت المقتضيات كلـّما تقلصت مساحة الإبداع والابتكار في واقع الأمة والأفراد، وفي ضوء ذلك يمكننا القول إن حال عوائق الإبداع حال الثقوب السوداء القادرة علي ابتلاع أكبر المجرّات، رغم ضآلة حجمها بالنسبة إليها كما يقرر الفيزيائي البريطاني المشهور ستيفن هوجن.

 

ومهما يكن من أمر فإن أهم ما يمكننا رصده من عوائق وموانع الإبداع والتطوير والتغيير في مجتمعنا العربي المعاصر تختزل في التالي من الأسباب :

 

1- الاستبدادان السياسي والديني : وهما آفتان ما فتئتا تنخران في مجتمعنا العربي، وليس أحدهما أقل سوءاً من الآخر، بل هما آفتان متلازمتان، إذ ما دخل الاستبداد السياسي بلداً إلا وقال له الاستبداد الديني : خذني معك. وإذا ما أطبق الاستبداد بظله علي أمة فلا إبداع إلا في فنون الظلم والقهر.

 

2- غياب حرية البحث العلمي : إذ لا محفزات ذاتية ولا موضوعية تعمل علي تحقيق متطلبات البحث العلمي الحرّ والمبدع.

 

3- الجمود المعرفي : الذي يلفّ تعاملنا مع الشأن المعرفي في الوقت الذي نعايش عصر الانفجار المعلوماتي.

 

4- المحاكاة والتقليد : وهي آفة تعتادها المجتمعات المغرقة في الجهل والظلام والتي لا تجرؤ علي اكتشاف إجابات جديدة لأسئلتها القديمة.

 

5- التعصب المعرفي : وهو ما يتمّم المانع السابق فيتآزران في قتل كل إمكانيات الانفتاح علي الجديد وإبداع غير المألوف.

 

6- ضعف مهارات التفكير : وهي خاصية تترسخ في ذات الفرد والمجتمع حينما تطول فترات الخمول والكسل التي يحظي بها نشاطهما العقلي.

 

7- فوضي الأفكار : التي لا يمكن التمييز في ظلها بين السليم والسقيم.

 

8- ضعف المناهج التعليمية : وهي أمّ المصائب التي ما فتئنا نتربى في حضنها ونرتدع من ثديها منذ أمد، من دون أن نصل إلي مرحلة الفطام.

 

9- غياب حوافز التشجيع : بل يتوفر في مقابلها كل متطلبات التثبيط والتخبيط ووأد القدرات وتضييع الإمكانيات.

 

10- خشية المبادرة : وهي حالة من الطبيعي أن تنمو في أجواء القمع.

 

11- رواج ثقافة الاستهلاك : وهي المقابل الطبيعي لغياب مظاهر الإبداع، واستلاب كل قدرات التجديد في مجتمعات مغلوبة علي أمرها.

 

12- غياب مراكز رعاية الإبداع وتنمية قدرات الموهوبين : لأن الإبداع هو دائماً العدو الأول للسلطة الغاشمة، ولذلك تدعوه ''ابتداعاً''.

 

13- بلادة الفهم والإحساس : وهو ما يدعو للتساؤل : أين سرعة البديهة التي امتاز واشتهر بها العربي قديماً؟

 

41- قيود الضبط الاجتماعي : والمتواجدة في الأسرة والمدرسة والمجتمع والدولة، حتى أنها حولت أهم ممارسة معرفية في حياتنا وهي التعليم إلي صناعة للقهر.

 

وفي ظل تواجد وتوافر وتكاثر هذه العوائق أحسب أن درب الإصلاح في عالمنا العربي لن يكون سهلاً أبداً، وأخشى ما أخشاه أن يتحول مشروع الإصلاح برمته إلي مشروع شبيه بمشروع حياكة الثوب الملكي في حكاية العيارين الثلاثة، والتي تقول: إنه كان يا ما كان في قديم الزمان مملكة صغيرة يحكمها ملك رؤوف عادل يحبه شعبه ويحب شعبه علي خلاف العادة في ممالك ما وراء النهرين من بلاد السند والهند ومن عاصرهم من ذوي السلاح وقوة الزند، فحظت هذه المملكة بثبات ونبات، وما بقي أحد فيها إلا وخلف الصبيان والبنات، وجرت الأمور علي أفضل أمر مقدور، حتى دخل المملكة ثلاثة من العيارين الكسالى ممن أتقنوا الحيلة وفن الخداع، وتمرسوا في الوصول إلي أعلي المناصب بلا وجع رأس ولا صداع، ولأن أهل المملكة مسالمون وموادعون يحبون إكرام الضيف والاحتفاء به، فقد استقبلوا هؤلاء الثلاثة وأكرموهم من دون سؤال عن أسمائهم ولا أنسابهم حتى انقضت الأيام الثلاثة، كما جرت العادة في بلاد يعرب بن قطحان ومن جاوره من ذوي السلطان، ولما استلذ الثلاثة بالراحة والمبيت، واعتادوا أكل اللحم والخبز الفتيت تشاوروا في ما هم فاعلون بعد انقضاء الأيام الثلاثة وانتهاء أمد الضيافة، فهدتهم الحيلة إلي طلب مقابلة الملك مدعين أنهم يبتغونه في أمر جليل، وأنهم يبيحونه سراً لا يعرفه إلا القليل.

 

فكان ما أرادوا والتقي الثلاثة بالملك وحدثوه أنهم يريدون أن يخيطوا له ثوباً لم يخط مثله من قبل، وأن فيه من آيات الحسن والجمال ما لا عين رأت ولا خطر علي قلب بشر، وميزة هذا الثوب أن من كان ابن زنا لا يحظي برؤيته، إذ لا يراه إلا المطهرون ممن خلص نسلهم وطهر أصلهم من الخيانات الزوجية المنتشرة في بلاد الوقواق كانتشار الهنود في بلاد الجدود وما حاداها من إمارات الدخل المحدود.

 

وفرح الملك وطرب، واهتز الوزير ولعب، وصدرت الأوامر السامية من ذوي المقامات العالية بتهيئة المستلزمات ورفع الموانع والعقبات وإقامة الاحتفالات، متواصلة مترادفة حتى انتهاء الثلاثة من حياكة الثوب الموعود مهما طال الأمد الممدود. وبالفعل شرع الثلاثة في الاشتغال بالحياكة بعد أن أهداهم الملك قصراً فارهاً وسيعاً متسعاً، وصار لهم الحق في التنقل في أرجاء البلاد واستخدام كل العباد، بلا مساءلة من أحد من العبيد أو الأسياد، وعاش الثلاثة مدة مديدة في المملكة السعيدة حتى أوشكت خزائن المملكة أن تفلس من طول صرفها عليهم، وبدت الناس تتذمر من كثر انصياعها إليهم، فأدرك الثلاثة أن الأوان قد آن للرحيل من هذه المملكة بعد أن صار البقاء فيها تعريضاً للنفس للتهلكة، كما إنه لم يبق في خزائن المملكة إلا بعض الدراهم الصفراء المستهلكة.

 

وأعلم الثلاثة الملك أن اليوم الموعود قد اقترب، وقد حان الحين لرفع الأعلام والنصب، وإشهار الأمر بين من بعد أو قرب، وتم الميعاد وحانت الساعة، واجتمع الناس في الساحة، واصطف الوزراء والضباط والجنود ومن شاكلهم ممن استوردوا من خارج الحدود، وجاء العيارون الثلاثة وهم يتظاهرون بحمل الثوب الملكي الموعود، واستعد الملك للبسه مبرزاً بطنه من بين يديه، ومخفياً سوأته بين فخذيه، والجميع يصفق ويهتف، ومن كان من أهل التدين والالتزام يكبر ويهلل، حتى تمت المراسم، ولم يجرؤ أحد أن ينبس ببنت شفة أو يعترض، لأن من لا يري الثوب الملكي وحسنه وجماله لا مناص أن يكون ابن زنا ـ والعياذ بالله ـ، وهو ما لا يقبل أحد التفكير فيه، وهكذا جرت الحيلة وانطلت، وما نخشاه أن يكون مصير ثوب الإصلاح في عالمنا العربي اليوم، والذي يخيطه العيارون الثلاثة نفس مصير الثوب الملكي في هذه الحكاية، والذي نخشاه أكثر أن لا يتمّ الاعتراض من قبل أحد خشية أن يتهم بافتقاد المشروعية ويتمّ التشكيك في نسبه ونواياه وارتباطاته.

إنها حكاية رمزية محملة برسائل عديدة آمل أن يتفهمها القارئ الحصيف، وألا يتوقع من مشاريع الإصلاح الحالية أن تخرج أكثر مما في جعبتها فيكون مثله كما قال تعالي : (كـَبَاسـِـطِ كـَـفـَّـيْهِ إلي الماء لِـيَـبْـلـُغَ فـَاهُ وَمَا هُوَ بـِـبَالـِـغـِـهِ) (الر عد 41).

2005/5/23م

السيد كامل الهاشمي *