المبارك وميثم البحراني (1 - 2) 

رضي السماك

الشيخ حميد المبارك رئيس محكمة الاستئناف الجعفرية عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية من علماء الدين المقلين في كتاباتهم الصحفية والبعيدين عن أضواء الساحتين الإعلامية والسياسية إلا ما خلا من حالات قليلة هذا على الرغم مما يتمتع به من مستوى متقدم في الفقه والوعي السياسي والثقافة العامة. وأنت تتفق أو تختلف مع أفكار ووجهات نظر هذا الشيخ لكن لا تملك إلا أن تحترم منهجيته في الحديث والحوار عند عرض هذه الأفكار وما تملكه من تماسك في بنية منطقها الداخلية سواء اختلفت معه بالكامل فيها أم اتفقت معه في هذه الجزئية أو تلك الجزئية منها.

 

وهو إلى ذلك من المجددين في أسلوب خطاب المنبر الحسيني بما يرقى إلى محاورة المستمعين بدلا من الأسلوب التقليدي الذي يغلب عليه الطابع التلقيني التدريسي والاكتفاء بإلقاء الخطاب وختمه ببكائيات واقعة الطف من دون فتح باب الحوار مع المستمعين. في الأسبوع الماضي حضرت له محاضرة قيمة عن الشيخ ميثم البحراني بمجلس الجمري. وكان أهم ما لفت انتباهي في أسلوب عرضها التركيز المكثف والاختصار الوافي وجزالة الألفاظ وهدوء المحاضر في العرض والحوار وهذه مزايا أخرى تحسب لهذه الشخصية الدينية. المحاضرة التي ألقاها المبارك تحت عنوان: «الشيخ ميثم البحراني.. هل يعرفه أهل البحرين؟« تطرق فيها إلى مكانة هذا العالم الفقيه المفكر الفيلسوف من خلال استعراض أقوال واستشهادات معاصريه من العلماء وأساطين الكلام والتفسير والفقه والمنطق وبضمنهم من جاءوا بعده في عصور لاحقة قريبة من عصره والذين تناولوا فيها مناقبية الشيخ ميثم وخصاله العلمية والإنسانية ومن هؤلاء الشيخان العاملي والبهائي. وقد تطرق المحاضر إلى أربعة جوانب أساسية امتازت بها حياة هذا العالم الفيلسوف العلمية والإنسانية:

 1- منهجه ونزعته العقلانية في البحث والتفكير إذ كان ممن يعطون العقل أهمية قصوى في البحث العلمي بما في ذلك لتفسير القرآن بغية فهمه وعدم الاقتصار على الحديث والرواية. 2- ما قام به من إسهام في إحياء العلم والمعرفة في البحرين وتطويرهما بما في ذلك الاهتمام بأحوال طلبة وأساتذة العلم الدراسية والمعيشية.

 3- أن تبحر الشيخ ميثم في العلم والمعرفة والفقه لم يجعله درويشاً منعزلاً في صومعته منكفئاً عن أحوال شعبه المعيشية والاجتماعية، بدليل رسالته المطولة إلى نصير الدين الطوسي إبان الحملة المغولية على بلاد المسلمين المجاورة والتي ضمنها الكثير من تلك الأحوال والمطالب العامة والشكوى من ثقل وطأة الخراج المتصاعد (الضرائب) التي تقصم ظهورهم.

 4- نزعة التسامح المذهبي لديه حيث تميزت أعماله وبحوثه الفقهية بالاعتدال والابتعاد عن الإغراق في الخصوصية المذهبية كلما أمكن ذلك سبيلا وهذا ما تميز به على سبيل المثال شرحه لكتاب مائة كلمة للإمام علي «ع«. وتتجلى أهمية هذه النزعة التي تحلى بها بأنها جاءت على وجه الخصوص في زمن انفجار الفتن والمذابح والطائفية في شوارع بغداد تماما كما يجري الآن وتسامحه لم يتأثر بتلك الفتن، وهو مما له مغزاه المعاصر الذي ينبغي استلهامه في رأينا من قبل مشايخنا المعاصرين على اختلاف انتماءاتهم المذهبية، أي تخفيف الاستغراق في المظاهر والاستعراضات الطائفية قدر الإمكان. أخيراً فإن المحاضر يؤصل أسباب انحسار الفكر الفلسفي وضمور النزعة العقلانية عن منهج العلوم والبحوث الدينية خلال القرون القليلة الأخيرة حتى يومنا في عاملين رئيسيين: الأول: ما تعرضت له البلاد من اضطرابات سياسية وغزوات واحتلالات متعاقبة. الثاني: شيوع وغلبة النزعة الأخبارية ومدرسة الحديث.

العدد 10134       12-2005م  صحيفة أخبار الخليج

********

 

المبارك وميثم البحراني (2 - 2) 

رضي السماك

 

بيّنا يوم أمس أن الشيخ حميد المبارك يرجع تراجع وضمور النزعة العقلانية من الساحة الفقهية والعلمية البحرينية خلال القرون الأخيرة لعاملين رئيسيين: الأول ما مرت به البلاد من قلاقل وخضات سياسية وغزوات واحتلالات حيث لا يقدر الغزاة والمحتلون العلم والعلماء حق قدرهم فضلا عن انشغال أذهان الناس بقوتهم والدفاع عن أمنهم، والثاني طغيان المدرسة الأخبارية المتمسكة بقوة بالحديث والرواية والنقل كمنهج وحيد مقدس للبحث العلمي والاجتهاد مما انعكس بدوره على عزوف الناس والعلماء وطلبة العلم عن إعمال العقل وشعورهم بالتواكل وعدم الحاجة إليه.

 

ويلفت الشيخ المبارك الانتباه إلى ما مؤداه انه ربما من لطائف الله لم يبق مشهورا عن ميثم البحراني الفيلسوف المفكر الفقيه سوى مزاره وارتباط هذا المزار بالنذور وطلب الشفاعة، حيث أن أفكار وأعمال الشيخ ميثم ظلت بمعظمها في الغالب الأعم إما مغيبة وإما دفينة، وإلا لربما واجه المزيد من حملات التجهيل والتغييب والحملات الظالمة التي تصل إلى حد التكفير كما حدث للملا صدرا والشيخ أحمد الحسائي. ويضرب المبارك مثلا بنموذجين من روّاد المدرسة الفلسفية العقلية العرفانية واللذين هما بمثابة امتداد للشيخ ميثم في منهجية التفكير، جلال الدين الرومي وكان من معاصريه، والملا «جاني« وهو معروف كالشيخ ميثم في مقته للغلو الطائفي والمساجلات الكلامية الموغلة في الخصوصية المذهبية. وأعاد المحاضر التذكير بمقولته الشعرية المشهورة المعبرة عن سأمه من تلك المساجلات المملة العقيمة الممزقة لشمل الأمة: «سألوني ما هو مذهبك؟ فأجبت: الحمد لله لست بكلب سني ولا حمار شيعي«. أما الأول (جلال الدين الرومي) فقد عرف عنه بنزعة تقترب إلى حد ما من أصحاب نظرية الحقيقة المتجزئة في عصرنا الراهن بمعنى أن الحقيقة ذات ألوان متعددة لا يمكن لأحد احتكارها بالمطلق. ويمكن النظر إليها من زوايا متعددة. ولا شك أن ذينك السببين المشار إليهما اللذين علل بهما المحاضر انحسار النزعة العقلانية والمدرسة العرفانية من ساحة العمل الفقهي والمعرفي هما وجيهان، لكن في تقديرنا مازالا بحاجة إلى تأصيل وتحليل تاريخي موضوعي أعمق واشمل عبر الإلمام بكل الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والاجتماعية الدقيقة التي أفضت إلى هذا الضمور في النزعة العقلانية والعرفانية في الثقافتين الفقهية والعامة ردحا طويلا من الزمن امتدت آثارها قرونا بدرجات متفاوتة إلى يومنا هذا. فلئن كان العامل الأول ألا وهو دور الاحتلالات والغزاة في تأخير العلم والعلماء والثقافة والأدب، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم يظهر تأثير مثل هذا العامل الخارجي على أوضاع الحقل العلمي والمعرفي في بلدان أخرى في المنطقة مرت بنفس ظروف مشابهة للظروف التي مرت بها الساحة البحرينية، هذا من دون إنكار بالطبع ما لهذا العامل من تأثير على الأوضاع العلمية والثقافية فان السؤال يصح هنا: إلى أي درجة هذا التأثير حاسم في ذلك التراجع؟ وما ينطبق على العامل الأول ينسحب على العامل الثاني المتعلق بانحسار وضمور المدرسة العقلانية العرفانية، فهنا يبرز السؤال: لماذا تمكنت المدرسة «الأخبارية« من تسييد منهجيتها ونزعتها في أعمال البحث الفقهي والفكري والأدبي فضلا عن سائر ضروب الثقافة العامة؟! هل لأن هذه - ونقول ذلك افتراضا - اقرب إلى هموم الناس مثلا واقدرها على مخاطبة عقول عوام الناس البسطاء، في حين تفتقد المدرسة العقلانية في الغالب لمثل هذه اللغة المبسطة ولا تملك سوى مخاطبة عقول النخبة؟! وإذا ما أتينا إلى عصرنا الذي تخللته خضّات واحتقانات متعاقبة ولنسلم بأنها أفضت لافتقاد البحرين إلى مجتهدين كبار وقمم فقهية كالذين ظهروا في العصور الخوالي فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا والمفتوح لاجتهادات مختلفة للإجابة عنه: ما الدافع أو الحتمية التي تملي على كل أو معظم علماء الدين الانخراط في الأنشطة السياسية جزئيا أو كليا بدلا من انقطاع ولو شريحة منهم للعمل البحثي الفقهي والفكري والتخصص التام فيه؟ أليست بلدان مثل العراق ولبنان إلى حد ما مرت بظروف مشابهة لبلادنا ومازالت تنبت قمما فقهية رغم إننا كنا نبز هذين البلدين؟ وإذ نطرح مثل هذه التساؤلات التي نعتقد بأهميتها لتأصيل الجذور التاريخية لإشكالية فكرية دينية سياسية مازالت تلقي بظلالها إلى يومنا هذا فليس لأننا نملك الإجابات الدقيقة الحاسمة حولها بقدر ما نطرحها لاستنهاض وإثارة الحوار العلمي الموضوعي بين كل المعنيين بهذه الإشكالية.

 

العدد 10135         12-2005م  صحيفة أخبار الخليج