صراع الكتل البرلمانية .. و متغير العمل السياسي

 

انقضت ثلاثة أدوار من الفصل التشريعي الأول، نحتاج فيها الآن وقبل فوات الأوان إلى وقفة مراجعة، وسيكون الوقت متأخراً إن لم يقف زعماء الكتل النيابية والنواب أيضاً، وحسناً يكون إذا شاركهم المجتمع المدني والمواطنون والنشطاء السياسيون وسواهم من المعنيين، وقفة جادة لمراجعة وتحليل الطريقة التي سارت بها الأمور في مجلس النواب ممثل الشعب المنتخب، وكيف يمكن لهذه الطريقة أن تتطور وتتجاوز التعبيرات المقلقة التي ظهرت بين الكتل البرلمانية وامتدت أحيانا لتؤدي إلى تصدعات طالت العلاقة بين النواب أنفسهم، والأخطر من ذلك انعكاسها السيئ على المواطنين وفي المجتمع خارج المجلس مما ينذر بأنّ الأمور إذا ظلت تسير بذات المنحى في الدور الرابع- الذي سيبدأ في أكتوبر المقبل – بحدوث احتكاكات قد تلحق الضرر بتماسك المجتمع. 

وقبل أن نبلغ مرحلة الإدانة لبعض ما جرى يجب التأكيد على أنه لا يوجد ما يعيب في توجيه النقد للمجلس من داخله أو من خارجه لبعض المظاهر السلبية في أداء النواب أو في علاقتهم بما يجري في المجتمع، وما أكثرها، لكن العيب يكمن في الانتكاس وخلق عوامل التأزم، وعلى بعض النواب أن يدركوا أن أصل الصراع في المجتمع البحريني لا يختلف عن ما يجري في بقية المجتمعات، وهو يتمحور حول صراع بين قوى تملك الثروة وتهيمن على مراكز السلطة و تستحوذ على امتيازات ومزايا كثيرة وهي في الغالب على حساب الآخرين، وفي الضد منها قوى لا تنال من حقها غير اليسير منه ولذلك تشعر بالظلم والتهميش، حيث أن أصحاب القوة والنفوذ لا يهمهم غير مراكمة الثروات والتمتع بالجاه على حساب الضعفاء الذين قد يكونون من نفس فئاتهم أو مذهبهم، لا فرق، ذلك هو أحد عوامل تمركز الثروة في يد القلة، وفيه وحوله في البحرين كما في بقية المجتمعات يدور الصراع الاجتماعي.

ولو دققنا في التفاصيل فسوف نرى أن هذا المجلس المنتخب من 53% من المواطنين قد شهد ولادة متعسرة لرفض أعداد غفيرة من المواطنين بما في ذلك من شاركوا في الانتخابات الطريقة التي تمت بها التعديلات الدستورية في غفلةٍ منهم خلف حُجُب و من وراء الكواليس، مما نجم عنه بروز تيارين مَثلَاَّ المقاطعة والمشاركة أو ما أدعوها المقاطعة والمصافحة، وكان من نتيجة تلك الرؤية السياسية المرتبكة ظهور أمرين، أولهما أن قطاعات جماهيرية واسعة رأت نفسها أو ربما كما يقول بعض المراقبين نُصب لها فخاً لكي تقع فيهِ بِرِجلِها حتى تبقى خارج العملية الديمقراطية لتمارس نشاطها السياسي من خلال التحشيد الجماهيري وهي خارج دائرة الفعل مما نتج عنه حرمان المجلس المنتخب من عناصر كفوءة ذات رؤية يشكل وجودها داخل المجلس إضافةً طيبة للعمل البرلماني وقلقاً بين المناهضين للعملية الديمقراطية، وثانيهما نقص الكفاءة والخبرة والتراكم المعرفي والفني للاضطلاع باختصاصات البرلمان في التشريع والرقابة لدى غالبية النواب الذين وصلوا للمقعد النيابي بفعل الفراغ الانتخابي الذي ساهم بدوره أيضاً في نجاح عدد من النواب غير المُنتَظَرِين، ثُم ما لبثوا أن تبنوا مواقف ضد مصالح الناخبين الذين يمثلونهم. علاوةً على مهمة النائب في توليد الأفكار والمشاريع والمخارج لمشاكل المواطنين والمجتمع وهذه المشاكل كما يقول أستاذ الاجتماع في جامعة البحرين الدكتور باقر النجار ((  لا يمكن أن تُحل كما جرى في المجلس النيابي بالمطالبة بتعويض عن عطلة يوم الخميس تارةً، أو إلغاءِ أرباح قروض التقاعد، ولا إقرار قانون الأشبال و الكشافة )). وبذلك فقد أصبح لدينا في البحرين معادلة صار بمقتضاها المشاركون ضحية المقاطعةِ والحكومة معاً، أما المقاطعون – لسببٍ أو لآخر – فوقعوا ضحية بعض المشاركين والحكومة، والأخيرة باتت الفائزة الوحيدة في تمرير مشاريعها وبرامجها وإن طالها شيء من الحرج أحياناً بسبب انكشاف عوامل وشخوص فساد بعض وزرائها أو المحتمين بها.

وفي هذا الخضم برزت تكتلات نيابية قوية في المجلس بعضها تشكل قبل الانتخابات وانتظم أثناء العمل البرلماني، والآخر خلقته عوامل الصراع ورجع الكل إلى أيديولوجيته السابقة ومشتركاته أثناء الكفاح الوطني قبل الإصلاحات السياسية لتتوحد في أُطر توازي العمل الحزبي الذي لم يكن غريباً في تاريخ البحرين الوطني، بل تعمق منذ خمسينيات القرن الماضي وضم قطاعات جماهيرية واسعة، حتى انتظم عمل الكتل البرلمانية حسب العدد في:

1-   كتلة المستقلين: أكبر الكتل وتتكون من 8 نواب جميعهم سنة، مواقفهم تقترب كثيراً من الطرح الحكومي ولهم مقترحات اجتماعية وأحياناً دينية وهم على قدر كبير من التجانس.

2-   كتلة المنبر الإسلامي : 7 نواب سنة يشكلون أكثر الكتل تماسكاً، غايتهم الدفاع عن أخلاق المجتمع والأسرة وهم متجانسين يمثلون تيار الأخوان المسلمين في البحرين.

3-   الكتلة الإسلامية : وتتكون من 7 نواب بعد أن انفصل أحدهم مؤخراً عن الكتلة، جميعهم من مذهب واحد وغايتهم كما يقولون الدفاع عن حقوق الشيعة والاشتراك في تبني بعض المطالب الأخرى وهم غير متجانسين.

4-   كتلة الأصالة : تتكون من 5 نواب و عدد من المتعاطفين وهم سلفيون سنة، غايتهم تقويم المجتمع ونشر الدعوة الإسلامية وكثيراً ما يفترقون في التصويت.

5-   كتلة الديمقراطيين : أقل الكتل عدداً حيث تتكون من 3 نواب من اليسار الوطني وهي الكتلة الوحيدة مختلطة المذهب في المجلس، غاية أعضائها تبني المطالب الشعبية والدفاع عن حقوق الناس وخاصةً الفقراء والمصلحة الوطنية العليا واقتراح مشاريع التنمية الشاملة.

كما أن هناك كتلة أخرى "الاقتصادية" في طريقها للتشكل خلال الفترة القليلة القادمة.

وهو أمرُ طيب وحميد أن ينتظم النواب في كتل برلمانية وكان يمكن أن يكون المجتمع أيضاً لو تمت الموافقة على مقترح قانون الأحزاب الذي قدم قبل عامين في مطلع الدور الثاني ولم ينل موافقة النواب وتردد المجتمع المدني في دعمه، بينما هو يطالب به اليوم . فالانتظام في كتل نيابية أو أحزاب سياسية هي من سمات المجتمعات الحديثة التي تضم أحزاب ونقابات و هيئات تبتعد عن الفردية وتجمعها المشتركات، وهو ما يرفع من مستوى الوعي الاجتماعي، وسوف يحين الوقت بعد حين في الانتخابات النيابية والبلدية عندما لن يكون بوسع الشخوص أو الأفراد تقديم برامجهم السياسية على أساس فردي بل سيقبلها المجتمع على أساس رؤى مستقبلية تحدد منظور الحزب لتطور المجتمع وتقدمه و طريقة حل مشكلاته ووفق هذا البرنامج سيصوت الناخب، وفي حال فاز الحزب بالأغلبية سيكون بمقدوره تشكيل الحكومة ليضع برنامجه ورؤيته موضع ألتنفيذ و يحاسبه البرلمان كما في الديمقراطيات الأخرى على أدائه أو تقصيره، فلا ديمقراطية حقيقية بدون أحزاب سياسية.

وحتى لا نبتعد كثيراً عن أصل الموضوع لنفحص الاختلافات التي جرت بين الكتل وأسبابها التي كادت أن تؤدي بالمجلس إلى التصدع وانعكست آثارها السلبية على الشارع البحريني، وكيف تمت معالجتها برلمانياً وسياسياً، وقد برزت أهم أسبابها كالتالي:

1-   إصرار بعض الكتل على إصدار المجلس بيانات إدانة أو تأييد  لأحداث داخلية (( شغب المعارض مثلاً )) أو خارجية (( أحداث الفلوجةً)) على اعتبار أن البرلمان بنظرهم يجب أن يساند الحكومة لا أن يناقشها، وبذلك فهم يرون المجلس عاملاً مسايراً لا فاعلاً أو ناظِماً وشريكا في العمل السياسي الوطني، لأنّ البرلمانات بنظرنا لم تخلق لإصدار بيانات الإدانة والتنديد بل للمصارحة والمكاشفة والتسويات الكبرى وشريكاً أساسياً في العمل الوطني.

2-   إخفاق القوى المقاطعة في التفريق بين موقفها من مقاطعة الانتخابات بوصفه تكتيكاً سياسياً مقبولاً قد تلجأ إليه الأحزاب والجماعات أحياناً، وبين موقفها من المجلس النيابي والمؤسسات الدستورية، حيث قاطعتها وحَّرمت التعامل مع النواب، وحاولت توريط بعض مؤسسات المجتمع المدني، مثل النقابات والاتحادات الجماهيرية في مثل هذا الموقف، مما أدى إلى الإضرار بهذه المؤسسات الجماهيرية في المقام الأول وحرمانها من إمكانيات واسعة للتحرك دفاعاً عن مصالح أعضائها.

3-   امتناع الحكومة عن تقديم المساندة الفعلية لا اللفظية للمجلس بل والعمل المبرمج لتهميشه وزيادته ضعفاً على ضعف، والاستخفاف بمقترحاته والتحايل عليها، مما يعبر عن عجز الحكومة عن التعاطي حتى مع هذا النزر اليسير من هامش العمل البرلماني والسياسي، فيما كان بعض النواب يُسرِفون في تقديم وعود لا يستطيعون الوفاء بها لناخبين يتأملون الكثير و يرون في ((البرلمان هو الحل)) وليس هو كما المعروف عن البرلمانات مؤسسة لإدارة الصراع بشكلٍ سلمي دستوري يحكمه مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية وعدم تداخلها بل تعاونها، وعلى هذا النحو فقد أخطأ الجميع في التوقع، أخطأ بعض النواب ومعهم المشاركون الذين رأوا أن الحكومة لن تخذل المجلس وستقدم المساندة لمشاريع النواب باعتبارهم جاءوا حصيلة ذروة مشروع السلطة في الإصلاح و هي الانتخابات النيابية، وهو ما توقعه المقاطعون أيضاً، أما الحكومة فقد رأت من جهتها خلاف ما رآه الطرفان السابقان وفضلت إضعاف المجلس حتى لو كان ذروة مشروعها السياسي على اعتبار أن ذلك سيريحها من الهم والغم ولو إلى حين . كما أن مراقبين رأوا أن البرلمان يمثل رؤية أحد فرقاء السلطة وليس كل أطرافها.

4-   بروز ظاهرة غريبة على الأعراف النيابية وهي أن يتحول بعض النواب وهم المنتخبين شعبياً إلى أكبر المتطوعين للوقوف ضد انتقاد الحكومة وأخطائها أو حتى انتقادات زملائهم النواب أو الأمانة العامة للمجلس وهي التي تشكل أكبر الإعاقات الإدارية والفنية في تطور العمل البرلماني الحقيقي. وقد توسعت تلك الظاهرة لتشمل بعض النواب أيضاً الذين باتوا يبادرون إلى القيام بدور المدافع عن أخطاء وسياسات الوزراء أو المسئولين ضد زملائهم النواب الذين يكشفون خللاً إدارياً أو فساداً مالياً في مؤسسات الحكومة (( رد بعض النواب على زملائهم في استجواب التأمينات و التقاعد )).

5-   شعور بعض النواب بالعجز وأن لغة الكلام والإقناع والمحاججة لم تعد كافية في إيضاح موقفهم أو إقناع غيرهم بوجهة نظرهم، مما يحدوهم إلى تقديم طلبات قفل باب النقاش ((خمسة نواب)) والتصويت عليها اعتماداً على توفر أغلبيتهم العددية حين التصويت، وذلك يحول دون استمرار الحوار وإنضاج النقاش وبلورة الأفكار الجديدة، والأنكى من ذلك هو بروز ظاهِرة استخدام القوة وممارسة التَعَدِّي الجسدي في أواخر الدور الثالث بين النواب مما كاد معه أن يتحول المجلس إلى حلبة مصارعة.

6-    دخول أطراف رسمية قوية و فاعلة وتملك كثيراً من أدوات التأثير في محاولة منها لإحكام الإمساك بأدوات التغيير السياسي والاجتماعي من خلال توجيه بعض مواقف الكتل، وقد خلق ذلك تضارباً في المصالح بينها، وفي مواضع أخرى تتلاعب بالمواقف كماً يتم تحريك بيادق الشطرنج وساعد على ذلك وسهل منه قبول بعض الكتل النيابية بل سعيها الدؤوب لإجراء مساومات ومقايضات خلاف مصلحة العمل النيابي والوطني، لقاء الحصول على بعض الوظائف العليا لأعضائها أو محازيبها مع مصالح و منافع أخرى ضيقه.

السابق ذكره هي بعض من التجليات وليس كلها التي تم رصدها في الأعوام الثلاثة الماضية، ولا يجب والحال هذه أن تشكل أسباباً للنكوص عن منهج العمل الديمقراطي، فليس العيب في الديمقراطية فهي تشهد مثل ذلك أحياناً حتى في أعرقها، ومع ذلك لم نسمع أن نواباً برلمانيين ولا المفكرين والكتاب الذين ينعمون الآن بحرية أوسع للكلمة والتعبير تمنوا العودة إلى الوراء وطالبوا بهجر سبيل العمل الديمقراطي كما يحصل أحياناً في البحرين من مطالبة بعودة القوانين القمعية أو التلويح بمثل هذه الأفكار لمجرد الاختلاف بشأن وقوع بعض الأحداث الداخلية أو الخارجية على السواء.

 

 وبذلك فالنواب يقفون الآن أمام ظاهرتين: إحداهما ممارسة إيجابية تسعى إلى رفع سقف العمل السياسي والإسهام الفعال في خلق الحدث والحضور في المشهد الوطني وتبني الدفاع عن المطالب الشعبية بالقول الصريح العالي النبرة والواضح السمات لا الوجِل المرتبك ، أما التالية فهي ممارسة سلبية تمثل الرفض والمداورة وخلق العقبات، تحت حُجة الحرص على سلامة خطوات الإنجاز إلا أن خفاياها كثيرة كعدم احترام التنوع و الحريات والمساواة وتكافؤ الفرص مما يؤدي إلى مقاومة مسارات التغيير والخوف من أفكار واقتراحات النواب الآخرين أو التشكيك فيها وحولها.

تلك كانت حصيلة الأعوام الثلاثة الماضية، فماذا عن الرابع؟ والذي يليه ! والحال كذلك فإن مجلس النواب عليه أن يتعامل مع الراهن بجدية وصرامة كبيرتين، فليس على بعض النواب التماهي مع موقف الحكومة بل عليهم و هو الطبيعي أن يدافعوا عن مصالح ناخبيهم الذين أوصلوهم لقبة البرلمان، فليس من مهمة بعض النواب أن يُنصبوا أنفسهم وكلاء للدفاع عن الحكومة فهي ليست عاجزة عن الدفاع عن نفسها وعن سياساتها فلديها الوزراء والأجهزة والمستشارين وغيرهم، وستكون كارثة للديمقراطية الوليدة في البحرين أن يتحول بعض النواب إلى وكلاء للحكومة عِوض تمثيل الشعب الذي انتخبهم، وإلا فإن أولئك النواب لن يكونوا بأفضل والحال هذه من أعضاء مجلس الشورى السابق أو اللاحق، الذين لم يكن لهم لا حول ولا قوة . وليس أدَلَّ على ذلك من تمرير قانون الجمعيات في مجلس الشورى خلال أول جلسة عُرِضَ فيها، فإذا عجز البرلمان في البحرين أو في غيرها من الدول العربية عن تمثيل ما يجري في المجتمعات العربية وشوارعها بصدق وأن يُشكل جسراً لأصوات الناس، فالمتوقع أن تبحث التغييرات والضغوط عن شقوق ضيقة في الجدران السياسية تنفذ منها منفجرةً بكل الدوي المحبوس، ولذلك فإن على بعض النواب أن لا تضيق صدورهم بطرح زملائهم وإن رأوه حاداً أو نقدياً أو ما يخالف موقفهم الأيديولوجي أو الموضوعي، خاصةً وأن ساحة العمل السياسي – حسب المعطيات الأخيرة – ربما تشهد كثيراً من التحولات و التبدلات منذ الآن وحتى حلول الانتخابات البرلمانية المقبلة التي من المحتمل أن تفضي إلى إعادة اصطفاف لبعض القوى مما سينعكس أيضاً على شدة الطروحات وعنف الكلمات بين الكتل والنواب داخل المجلس . فمشاكل المجتمعات لا يخفيها التجاهل وأي معالجة لها عن غير الطريق الديمقراطي وأدواته من خلال النقاش والدراسة والحوار المعمق بعقلٍ مفتوح وروح بناءة وشفافة وبتطلعٍ نحو المستقبل لا الإنشداد إلى الماضي، لن تؤدي إلى معالجة سليمة لتلك المشاكل و لن تهتدي إلى الحلول الناجزة.

 

محاضرة مجلس الشيخ عبدالأمير الجمري في ليلة الثلاثاء الموافق 26-9-2005م

عبدالهادي مرهون

      البحرين