الإصلاح السياسي وقضايا المواطنة

مفتتح:

   عديدة هي المهام والوظائف، التي ينبغي أن يقوم بها المجال الإسلامي على ضوء التطورات والتحوّلات الأخيرة. ويبدوا أنّه بمقدار التزام هذا المجال بهذه المهام والوظائف، تنتظم حالة الاستجابة وتتبلور طرق الإفادة التي تجري في العالم بوتائر سريعة ومتلاحقة.

   إلا أن القاعدة الكبرى، التي ينبغي أن تتوفّر في المجال الإسلامي على ضوء تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي تأسيس فعلي وتعمي متواصل للسلوك الديمقراطي في مختلف مجالات الحياة العربية والإسلامية.

   إذ أن هذه التحوّلات بتأثيراتها العميقة على واقعنا مسارنا الخاص والعام، لا بد أن تساهم في خلق ذهنية جديدة قوامها الديمقراطية والانفتاح والتواصل مع الآخر واحترام الآراء والتعبيرات المتعدّدة، وفسح المجال للحوار المتعدّد والمفتوح  على كلّ القضايا والأمور للوصول إلى نهايته المنطقية. وبدون إرساء قواعد وتقاليد السلوك الديمقراطي في واقعنا وفي مختلف الدوائر، لن نتمكّن من استيعاب الفرص المتوفِّرة، ومواجهة التحديات الضخمة التي تواجهنا. هذا السلوك الديمقراطي الذي يجعل الدولة دولة لكلّ مواطنيها، ويجعل المجتمع متحداً مع تنوّعه ومتوافقاً مع اختلافه ومتصالحاً مع نفسه، دون أن يعني هذا الجمود والترهّل.

   بحيث يشترك الجميع في الحياة العامة، فلا يظل طرف خارج عملية البناء الوطني، ولا يشعر أحد بالغبن والحيف. بل يقتنع الجميع وعلى نحو فعلي وواقعي، بأنّ الوطن لهم جميعاً على حدٍّ سواء، وأنّ التفاوت والتمييز والحقائق المضادّة لمفهوم الوحدة، والتي أثارت العقد والضغائن والتوترات بين مكنونات الوطن الواحد، قد انتهى وبدون رجعة. فالعدل والوفاق، هو الذي يحافظ على الوحدة بكلّ مستوياتها، وهو الذي يصون الاستقرار ويُعمّق من جذوره وقواعده في المجتمع.

والاستقرار السياسي في أوطاننا العربية والإسلامية في ظلّ الظروف والتحوّلات المعاصرة، لا يمكن أن ينشأ أو يستمر إلا في ظلّ شرعية وطنية جديدة، تولّد من جرّاء الانخراط في الإصلاحات السياسية وتوسيع المشاركة السياسية وتثبيت حقائق ومؤسسات ديمقراطية في العلاقة بين السلطة والمجتمع والإدارة العامة للوطن. وهذا المشروع بحاجة إلى نواة صلبة، تأخذ على عاتقها ترجمة هذه التطلعات والعمل على تجسيدها في الحياة السياسية والوطنية. وفي تقديرنا أنّ هذه النواة هي المواطن الممتلئ وعيا وحركة وحرية. وهذا لا يتم إلا بإعادة الاعتبار السياسي والحقوقي للمواطن في بلادنا ومناطقنا المتعددة، بحيث يمارس دوره وينال حقوقه الوطنية، ويقوم بواجباته ووظائفه. فلا مواطنة بدون حقوق سياسية ودستورية، فهي بوابة إنجاز مفهوم المواطنة. وهذه الدراسة- هي محاولة لبلورة مفهوم المواطنة وإعادة الاعتبار السياسي والحقوقي للمواطن، حتى تتوفّر كلّ الظروف والمعطيات المفضية لمشاركة جميع المواطنين في عملية البناء والتطوير.

قضايا في الإصلاح السياسي:

      إنّ الوصول إلى مبدأ المواطنة، وتجسيد مقتضياتها ومتطلّباتها في الحياة الاجتماعية والسياسية، يتطلّب على المستوى العملي، الكثير من العمل والكفاح للإعتاق من كلّ الدوائر والممارسات التي تحول دون الوصول إلى هذا المبدأ الجامع، الذي يؤكّد على الحرية والمساواة بصرف النظر عن المنابت والأصول. ويبدوا من العديد من المعطيات والتداعيات أنّ تراخي الإرادة السياسية في البلدان العربية والإسلامية تجاه هذه القيم، هو المسئول إلى حدٍّ بعيد عن تدهور الأوضاع وتقهقرها في مختلف المجالات والميادين، وذلك لأنّه إذا لم يشعر الإنسان بإنسانيته، وتحمى حقوقه من الضياع والتلاعب، لا تتوفّر لدى هذا الإنسان العلاقة المطلوبة مع واقعه السياسي والاجتماعي.

   وحينذاك تبدأ الفجوة بالأتساع بين النخب السياسية السائدة وعموم المجتمع بمكوناته المتعدّدة، وتتبلور مستويات التناقض وحالات عدم الثقة. فتتباين من جرّاء ذلك الأجندة والمصالح والعلاقات والأولويات. فتعاظمت من جرّاء ذلك المحن والأزمات، وتصاعدت التوترات والاحتقانات وبرزت في المشهد السياسي والاجتماعي العديد من العناوين واليافطات التي تسهم في المزيد من التشظّي والتفتيت وخلق الحواجز بين أبناء المجتمع والوطن الواحد، وتحوّل المجالين العربي والإسلامي من جرّاء هذه الوقائع وتأثيراتها المتعددة إلى ساحة للصراعات المفتوحة على كلّ الآفاق والوسائل، واشتدّ أوار الخصام السياسي والتناقض الأيدلوجي.

   وبتنا جميعاً حكاماً ومحكومين نعيش الأزمة بكلّ ضغوطاتها وإحباطاتها وتأثيراتها. ولا خيار أمام الجميع إلا الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي والثقافي والاجتماعي، الذي يُعيد للعرب والمسلمين دورهم الحضاري ويخرجهم من ظلمات التخلّف والتعصّب والاستبداد بكلّ صنوفه وأشكاله. وينقلهم من واقع الاحتراب الداخلي بعناوينه المختلفة إلى رحاب الوحدة والمواطنة الكاملة، وحجر الأساس لهذا المشروع الإصلاحي هو إعادة الاعتبار للفرد والتعامل معه على أساس المواطنية بصرف النظر عن انتماءاته التاريخية والراهنة، وأن تتعامل معه مؤسسة الدولة على أساس انتماءه الوطني.

  وفي هذا الإطار من الأهمية التأكيد على النقاط التالية:

1.  إنّ العدالة في مجالات الحياة المختلفة هي سبيل إنجاز مفهوم المواطنية في الواقع الاجتماعي، وذلك لأنّ المواطنة لا تهني التجاور المادي والجغرافي، وإنّما هي بناء نفسي وروحي وثقافي يتجاوز كلّ عوامل التباغض والتناحر والشكوك المتبادلة، وهذا الطموح والتطلّع لا يمكن أن يتحقّق إلا بالعدالة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، حيث لا مواطنة بدون عدالة مساواة وتكافؤ الفرص، والأمم والمجتمعات التي استطاعت أن تكرّس مفهوم المواطنة في تجربتها السياسية والحضارية، هي تلك المجتمعات التي قطعت شوطاً طويلاً في بناء الديمقراطية والمشاركة العامة والعدالة المجتمعية. إذ بدون هذه القيم لا يمكن أن يتطوّر حسّ المواطنة، وتتبلور قيم الانتماء الوطني الصحيح، وعليه فإنّ العنصرية والطائفية والديكتاتورية وتكميم الأفواه وانعدام الحريات العامة كلّها حقائق وعوامل مضادة ومناقضة لمبدأ المواطنة، ولا يمكن أن يتطوّر هذا المفهوم في متجمع يعاني من الأمراض والآفات المذكورة أعلاه، وذلك لأنّها كلّها تناقض مفهوم العدالة، وتشرع للتمييز وممارسة الظلم بكلّ صنوفه وأشكاله، وهذا بطبيعة الحال يقتضي التزام برنامج وطني شامل لإصلاح وتطوير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تتأمّن كل ضرورات المواطن، ويشعر بالأمن والثقة بوطنه راهناً ومستقبلاً. والعدالة في أحد وجوهها تعني التحرّر من الفقر والجهل المرض، وتحقيق مستوى معيشي اقتصادياً واجتماعياً مطرد التقدم ولا يُميّز بين المواطنين، والعمل على صياغة ثقافة وطنية جديدة تصقل روحية المواطن، وترسم اتجاهاته المقبلة، وتعلي من شأن التعايش السلمي والمصير المشترك والمسؤوليات العامة، وتهدم جدران العنصرية والطائفية والاستبداد. وغياب العدالة في الواقع الوطني هو الذي يهدم مستلزمات الوحدة الوطنية ويدق إسفيناً في مشروع العيش المشترك والوفاق الوطني، فالحقوق والواجبات لا تتم على قاعدة فئوية أو قومية أو طائفية، وإنّما على أساس المواطنة فهي المعيار والضابطة الوحيدة لترتيب نظام الحقوق والواجبات. والاختلافات السياسية والعقدية والقومية والانكفاء بل للتحاور والتبادل المعرفي وإثراء الثقافة الوطنية بالمضامين الحية والقادرة على اجتراح تعايش حيوي وفعّال بين مجموع مكونات الحالة الوطنية.

2.  إنّ المجتمعات الإنسانية ولاعتبارات عديدة هي بحاجة بشكل دائم إلى تشريع قانون ودستور ينظّم حياتهم في شؤونها ويُحدد المسؤوليات ويجعل كل مؤسسات الدولة خاضعة لهذه القوانين الدستورية، ولعلّنا لا نبالغ حين القول: إنّ تضخّم مستوى الاستبداد السياسي والاستفراد بالرأي في العديد من الدول العربية والإسلامية يرجع في أحد وجوهه إلى غياب المؤسسات الدستورية التي تأخذ على عاتقها ضبط نزعات الاستفراد والغطرسة وأشكال الحكم المطلق، وإنّ الإصلاح السياسي لا يمكن أن يكون بمجرّد التصريحات المناسبة أو الخطوات التكتيكية المقبولة شعبياً، وإنّما هو بحاجة إلى دستور يترجم إرادة الإصلاح ويجعل مؤسسة الدولة في إرادتها منسجمة والإرادة العامة للأمّة. فالإصلاح السياسي بحاجة دائماً إلى قاعدة قانونية، وهذه القاعدة هي الدستور الوطني الذي ينظم العلاقات ويحدد المسؤوليات، وإنّ القانون هو المرجعية الوحيدة لمعالجة كل المشاكل والأزمات، وإنّ كل أجهزة الدولة ومؤسساتها ينبغي أن تكون خاضعة لمقتضيات القانون ومواد الدستور الوطني. وبالتالي فإنّ مشروع الإصلاح السياسي يقتضي توفر مرجعية دستورية، وشفافية في الأداء والسياسات، وخضوع كلّ قوى المجتمع ومراكز القوى في مؤسسات الدولة إلى القانون والدستور، ولا يمكن أن نتصوّر إصلاحاً سياسياً حقيقياً بدون الدستور ونظام قانوني يكفل الحريات ويصون الحقوق،ويُحافظ على المكتسبات وينظم عملية التنافس والصراع، فالدستور حصانة ضد تكرار أخطاء ومآسي الماضي، كما هو مطلب وطني عميق ينسجم ومقتضيات العصر الحديث وأصالة المجتمع.

3.  لا ريب أنّ الوحدة الوطنية في ظلّ الظروف والتحديات الكبرى التي تواجه واقعنا السياسي من الضرورات التاريخية التي ينبغي أن نوليها الأهمية القصوى، ولكن من الخطأ التعامل مع هذا المفهوم بعيداً عن ضرورة الإصلاح وإعادة صياغة هذه الوحدة بما ينسجم وقيم العدالة والحرية والتسامح، فالوحدة التي تبنى بوسائل قسرية لا تدون، كما أنّ الوحدة الوطنية التي لا تحترم حقوق الإنسان وخصوصيات التنوع الثقافي المتوفّر في المجتمع لا تستند على قاعدة صلبة ومتينة، لذلك من الضروري التأكيد على ضرورة تجديد أسس الوحدة الوطنية، والعمل على صياغة الذات الوطنية وفق أس أكثر عدالة وإنسانية. فالتحديات التي تواجهنا ينبغي أن لا تصرفنا عن هذه الضرورة، وذلك لأنّ البناء السليم هو القادر على مجابهة التحديات والاستجابة الفعالة لمقتضيات الراهن. فالوحدة الوطنية ضرورة قصوى، كما أنّ الإصلاح السياسي وتجديد أسس الوحدة الوطنية ضرورة قصوى أيضاً، وتحولات الراهن تدفعنا إلى الإيمان العميق بضرورة التجديد والإصلاح وصياغة الذات الوطنية على قاعدة الوحدة والتعايش السلمي بين مكونات الوطن والمجتمع.

المواطنة والفضاء السياسي:

     ثمّة علاقة عميقة وجوهرية بين مفهوم المواطنة والأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة. وذلك لأن الكثير من مضامين المواطنة على الصعيدين الذاتي والموضوعي ، هي بحاجة إلى فضاء سياسي جديد، يأخذ على عاتقة تحريك الساحة بقواها ومكوناتها المتعددة باتجاه القبض على المفردات والعناصر الضرورية لهذا المفهوم.

   فالمواطنة كمبدأ ومرجعية دستورية وسياسية ، لا تغلي عملية التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي ، تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على احترام التنوع وليس على نفيه ، والساعية بوسائل قانونية وسلمية للإفادة من هذا من هذا التنوع في تمتين قاعدة الوحدة الوطنية . بحيث يشعر الجميع بأن مستقبلهم مرهون بها، وإنّها لا تشكل نفياً لخصوصياتهم، وإنّما مجالاً للتعبير عنها بوسائل منسجمة وناموس الاختلاف وآفاق العصر ومكتسبات الحضارة. ولا يكتمل مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي إلا بنشوء دولة الإنسان. تلك الدولة المدنية التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأيدلوجيات موطنيها. بمعنى أن لا تمارس الإقصاء والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثِّل في المحصّلة الأخيرة مجموع إرادات المواطنين

   لذلك فإنّ مفهوم المواطنة لا ينجز في ظلّ أنظمة شمولية- استبدادية، لأنّ هذه الأنظمة ببنيتها الضيّقة والخاصّة، تحول مؤسسة الدولة إلى مزرعة خاصّة تمارس الإقصاء والتهميش، كما تمنح الامتيازات بمبررات دون مفهوم الوطن والمواطنية.

   فالدولة المدنية التي تحترم الإنسان وتصون كرامته، وتمنحه حرياته الأساسية، هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة التي تبلور مفهوم المواطنة وتخرجه من إطاره النظري المجرّد إلى حقيقة سياسية ومجتمعية راسخة وثابتة، فدولة الإكراه والاستبداد وممارسة القمع والتعسّف تجهض مفهوم المواطنة وتخرجه نمن مضامينه السياسية المتجهة صوب الموازنة الفذّة بين ضرورات النظام والسلطة ومتطلبات الكرامة والديمقراطية، وكل الشعارات والمشروعات ذات الطابع التقدمي التي تحملها بعض السلط والدول تبقى مجرّدة وفي دائرة الاستهلاك الإعلامي والسياسي بدون المواطنة التي تمارس حقوقها غير منقوصة وتلتزم بواجباتها دون مواربة. وعليه فإنّ مراعاة مصالح المواطنين والعمل على ضمان حقوقهم واحترام حرياتهم وصيانة كراماتهم، هو الذي يضمن الاستقرار السياسي، ويطوّر مستوى التفاهم والانسجام بين السلطة والمجتمع وتتبلور الإرادة الوطنية صوب القضايا الكبرى للوطن والأمّة.

   لذلك فإنّ المواطنة وفق هذا المنظور هي قوام الحياة السياسية من مقتضيات ومتطلبات المواطنة،تتحوّل إلى حياة مليئة بالنزاعات والانقسامات وتكريس مضامين التخلّف والانحطاط المجتمعي.

   وذلك لأنّ المنابر الإعلامية ووسائط الثقافة في المجتمع تشترك في عملية تفتيت مضمون المواطنة عن طريق نشر ثقافة الكراهية والدعوة إلى المفاصلة والقطيعة مع بعض شرائح المجتمع، فينتشر التمزيق، وتتعاظم مظاهر التهميش وأشكال التمييز، وتهدد الوحدة الوطنية في أهم مقوماتها ومرتكزاتها ألا وهي المواطن. حيث أنّ تسميم المناخ الوطني العام بثقافة التمييز والكراهية، ودعوات المفاصلة والتحريض الطائفي والقومي، تقلص إمكانية الاستقرار، وتحول دون توفر متطلبات الوحدة الوطنية،فالدولة التسلطية بصرف النظر عن أيدلوجيتها والشعارات التي ترفعها، هي التي تجوّف مفهوم المواطنة وتفرغه من مضامينه السياسية والمجتمعية. لذلك هناك علاقة وطيدة بين مفهوم الدولة المدنية والمواطنة، إذ لا دولة مدنية بدون مواطنة كاملة تمارس كل حقوقها وتقوم بكلّ واجباتها الوطنية، كما أنّه لا مواطنة مستديمة بدون دولة مدنية تسن القوانين التي تحمي قانون المواطنة ومتطلباته، وترفده بالمزيد من الآفاق وأدوات الفعالية المجتمعية، فلا يمكن أن تتحقق مواطنة في ظل دولة تسلطية- استبدادية، لأنّ هذه الدولة ببنيتها القمعية تلغي دور المواطن في عملية البناء وتسيير أمور الوطن، كما أنّه لا يمكن أن ينجز مفهوم الدولة المدنية في مجالنا الإسلامي بدون احترام مفهوم المواطنة وتوفير كل مستلزماته الذاتية والموضوعية فالعلاقة جد وطيدة بين مفهوم المواطنة والدولة المدنية، إذ كل مفهوم يستند على الآخر لاستمراره وتجذّره في المحيط الاجتماعي، وهذا بطبيعة الحال يتطلّب" تسريع الاتجاه نحو الديمقراطية الحقيقية والتعددية الفعلية والتنمية الشاملة في الدولة وبالدولة إن أمكم، جنباً إلى جنب نحو محو الأميات المتكثّرة، وتحرير الأبنية الثقافية السائدة من عقد الأتباع والتقليد، وتثوير الوعي الاجتماعي بما يؤكّد معاني الحراك والمغايرة وحق الاختلاف، وتدعيم أسس المجتمع المدني بما يؤكّد مفهوم المواطنة بكلّ لوازمه الحديثة وشروطه الإنسانية التي لا تفارق       حرية الرأي والاجتهاد وحق الخطأ في الوقت نفسه"(راجع كتاب جابر عصفور- ضد التعصّب، ص242، المركز الثقافي العربي) وبالتالي هناك منظومة متكاملة من القيم والمبادئ التي تكرٍّس مفهوم المواطنة في الواقع الاجتماعي، ومن هذه المنظومة الديمقراطية والحوار والتسامح وحقوق الإنسان وحرية التعبير والانتماء، فكلّها قيم ضرورية إرساء مضامين المواطنة، أي أن توفّر هذه القيم هو الذي يؤدي إلى إنجاز مفهوم المواطنة وبمقدار غياب هذه القيم أو بعضها بذات المقدار يتم انتهاك مفهوم المواطنة.

   وهذا يدفعنا إلى القول: أنّ المواطنة لا تنجز إلا في ظل ناظم سياسي ديمقراطي- تعددي يحترم حقوق الإنسان ويصون كرامته ويوفّر ضرورات العيش الكريم.

   وعليه فإنّ الاستقرار السياسي والمجتمعي في المجالين العربي والإسلامي بحاجة إلى توفّر العناصر التالية:

  1. المواطنة التي تمارس دورها في الشأن العام دون خوف أو تردّد.
  2. مؤسسات المجتمع المدني التي تأخذ على عاتقها استيعاب طاقات المجتمع وتبلور كفاءاته وقدراته، وتساهم في معالجة المشكلات التي يمر بها المجتمع.
  3. الدولة المدنية التي تجسّد إرادة المواطنين جميعاً، ولا تميّز بين المواطنين لدواعي ومبرّرات ليست قانونية وإنسانية، فهي دولة جامعة وحاضنة لكلّ المواطنين، وتدافع عنهم، وتعمل على توفير ضرورات معيشتهم وحياتهم.

    فالأوضاع العربية والإسلامية بدون هذه العناصر تعيش القهقرى والمزيد من التراجع والانهيار على الصعد كافّة.

 لذلك فإنّ الجهود العربية والإسلامية اليوم ينبغي أن تتجه إلى توفير كل مستلزمات تجسيد هذه القيم والوقائع في المجالين العربي والإسلامي.

   ولعلنا لا نبالغ حين القول: أنّ غياب مبدأ المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية عن واقعنا العربي الإسلامي ينذر بتطورات كارثية على المستويات كافّة، ولا خيار أمام النخب السياسية السائدة إذا أرادت الاستقرار لأوطانها إلا الانخراط في مشروع الإصلاحات السياسية والوطنية المتجهة صوب إرساء دعائم المواطنة ومؤسسات المجتمع المدني والدولة المدنية الملتحمة في خياراتها الإستراتيجية مع خيارات مجتمعها، والساعية نحو إزالة كل رواسب الدولة التسلطية من واقعها ومؤسساتها وهياكلها المختلفة. وحده الإصلاح الحقيقي هو الذي يوقف الكوارث القادمة وعلى الصعد كافّة.

الأستاذ محمد محفوظ( كاتب وباحث من المملكة العربية السعودية) 03-01-2005م