حديث الجمعة 23/11/2001م لسماحة الشيخ عبد الأمير الجمري في جامع الإمام الصادق(ع) -في القفول- المنامة

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، وأصحابه المنتجبين والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. أيهاالأحبة،سلام من الله عليكم ورحمةٌ وبركات،وبعد: فقد قال الله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186) . أيها الأحبة سوف يكون حديثي اليوم على ضوء الآية المباركة وانطلاقاً منها عن الدعاء ،كآلية في طليعة الآليات، لصقل وتنمية الجانب الروحي ،وباعتبار أن الحديث عن الدعاء مسألة واردة تفرض نفسها في هذا الموسم الرمضاني المبارك. وقبل الحديث على ضوء الآية المباركة لنأخذ فكرة  عامَّة عن الدعاء فنقول: الدعاء هو التعبير الحي عن شعور الإنسان بحاجته الدائمةٍ إلى الله تعالى في جميع أموره، وعن اعتراف الداعي بصفة العبودية لله تعالى. والدعاء سند نفسي لضعف الإنسان ،والدعاء وسيلة كريمة لكشف الإنسان ما في نفسه من آلام وهموم، ووسيلة لاعتراف الإنسان بأخطائه ،وطلبه المغفرة وقضاء الحاجة ،ووسيلة لتصحيح الأخطاء ،وضبط السلوك... لذلك فإن الدعاء سنَّة مؤكدة بنص الكتاب والسنة، وعلى القول باستحبابه الشرعي يجمع المسلمون. وقفة عند الآية المباركة: وبعد هذا المدخل لنقف عند هذه الآية لنرى ما تفيض به من الحث على الدعاء ،وما توحي به من كمال العناية به، لما في لغتها من رقَّة أسلوب،فالآية لم تقل: وإذا سألك الناس ،بل قالت :وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي .فكم في هذا التعبير من جمال ،وشفافية،ورقَّة. ثم إن الآية المباركة تؤكِّد بمؤكِّدين هما(إنَّ) في كلمة (فإنِّي) وكلمة (قريب) في الجملة الإسمية التي هي مؤكِّد في حد ذاته وهي (إنِّي قريب)،تؤكِّد الآية بهذين استجابة الدعاء.

 

وقفة مع الأفكار المضادة للدعاء: وتصريح الآية الكريمة باستجابة الدعاء والتأكيد عليه يشكِّل ردَّاً ،وتفنيداً،وإبطالاً لكل فكر مضاد للدعاء، سواء كان موجوداً حين نزول الآية أو حدث بعد ذلك، هناك أفكار ونظريات ثلاث تستبعد الدعاء وتراه لا جدوى فيه.

1-الفكر الإسرائيلي الذي يرى :أن الدعاء لا جدوى فيه ،حيث يقول هؤلاء: الله لمَّا خلق الأشياء وقدَّر التقادير تمَّ الأمر ،وخرج زمام التصرّف الجديد المستقبلي من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ في الأحكام ،ولا بداء ، ولا استجابة لدعاء ،لأنَّ الأمر مفروغٌ منه. وهناك النظرية القدرية، التي تورَّطَ فيها القائلون بالقدر من المسلمين، حيث يقول هؤلاء:إنه لا صنع لله في أفعال عباده. وهؤلاء سبق وأن تحدَّث الرسول(ص) عنهم وحذَّر منهم، حيث قال عنهم كلمته التي يرويها علماء السنة والشيعة وهي:{القدرية مجوس هذه الأمة}.

2-الفكر الطاغوتي: وهذا الفكر وراءه القوة والنفوذ ،حيث يزعم أصحاب هذا الفكر انطلاقاً من شعورهم بالقوة والهيمنة ،وغرورهم يزعم هؤلاء: أن الدعاء لا قيمة له ولا فائدة فيه، فيُسخِّفون فكرة الدعاء ويعتبرونها خرافة. وما أحسن ما يقول الشاعر مخاطباً لواحد من هذه الفئة من المغرورين: وكان وزيراً ظالماً في بعض العهود للأمراء والملوك الظلمة،وقد نزل على فقير يضربه بالسوط ضرباً مبرِّحاً حتى أدماه، لأن الفقير قال له مُهدِّداً له بالدعاء حيث كان يعاني من ظلمه الشديد كواحد من المظلومين لأرمينَّك بسهام الليل ،فقال وهو ينهال عليه بسوطه مُستخفَّاً بالدعاء : هذه سهام النهار قد أصابتك فافزع إلى سهام الليل،ولكنَّ هذا الوزير أصابه القَدَر بما أفقده منصبه وحياته وكأنَّ هذا الشعر لسان القدر وهو:

أتهزؤ بالدعاء وتزدريه               تأمل فيك ما صنع الدعاءُ

سهام الليل لا تخطي ولكن            لها أمد وللأمد انتهاءُ.

بعض الإشكالات على الدعاء:

هناك من يشكل بدافع من نقص الرؤية الإسلامية ،والجهل بحقيقة هذا التشريع،وبترابط تشريعات الإسلام وطقوسه بعضها مع البعض الآخر، وأورد هنا إشكالين، الأول:أن الدعاء عمل اتكالي، بمعنى أن الإنسان يجلس ويدعو طالباً من الله قضاء حاجاته وحل مشاكله دون أن يقوم بعمل. الثاني: أن الدعاء طريقة سلبية ، بمعنى أن الدعاء يبتعد بالإنسان عن العمل وعن اتخاذ الموقف المناسب تجاه العوارض والأحداث .وكلا الدعويين باطل،فإن الإسلام  الذي أمر بالدعاء يُقرِّر قانون السببية، فالأمور مربوطة بأسبابها والعالم عالم أسباب، وليس بعالم معجزات،فالإنسان مكلَّف بأن يعمل ويبذل الجهد لمواجهة الموقف وإلى جنب ذلك يدعو الله أن يوفقه ويُنجِح سعيه، ويكفيه الفشل والله فوق الأسباب، وبيده كلَّ شيء وقد كان رسول الله (ص) أقرب الناس إلى ربِّه وأحراهم باستجابة الدعاء ومع ذلك كان أكثر الناس تدبيراً للأسباب الممكنة، فكان يحشد الجيوش ويُعد وسائل النصر ،ومع ذلك يلتجئ إلى الله ويدعوه. أما السلبية المزعومة في الدعاء ،فإن السلبية لا وجود لها في الإسلام، فهو تشريع الإيجابية والعمل والموقف، والدعاء في حد ذاته وسيلة تربية، وباعث يقظة وعمل، اقـرأ أدعية الإمام زين العابدين(ع) تجدها بالإضافة إلى ربطها الداعي بالمدعو توقف الإنسان أمام مسئولياته الدينية والإجتماعية والوطنية وجهاً لوجه. ففي بعضها يشعرنا(ع) بقيمة الوقت وضرورة استثماره فيما يرضي الله ويفيد الأمة ويخدم المصلحة العامة، قال (ع): {اللهم وهذا يوم حادث جديد وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنَّا ودّعنا بحمد ،وإن أسأنا فارقنا بذم}. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ،وإلى أرواح شهدائنا الأبرار وجميع أموات الأمة الإسلامية رحم الله من قرأ الفاتحة تسبقها الصلوات.