حديث الجمعة 1 محرَّم /1423هـ - 15/3/2002م لسماحة الشيخ عبد الأمير الجمري في جامع الإمام الصادق(ع) -القفول –المنامة.
بسم الله الرحمن الرحيم،الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمدٍ وآله الطاهرين،وأصحابه المنتجبين،والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. وبعدُ: فقد قال الإمام الحسين(ع): {وإنِّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي محمد(ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير في الناس بسيرة جدّي محمد وأبي علي بن أبي طالب(ع) فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق والله خير الحاكمين}. يعتبر هذا البيان الذي تضمَّنته وصية الإمام الحسين(ع) لأخيه محمد ابن الحنفية (رضي الله عنه) البيان الأوَّل لثورة الحسين(ع)، ويُعدّ وثيقة من أهم وثائق الثورة الحسينية. هذه الثورة التي في كلِّ فصلٍ من فصولها أقباس تضيء الطريق، وأنوار تكشف الظلمات، ومبادئ تعيد الناس إلى واقعهم الإسلامي، وتصحّح مسيرتهم الإسلامية، هذه الثورة التي كانت ثورة إصلاحية تصحيحية للفكر الإسلامي الذي تلاعبت به أيدي وأقلام المرتزقة التي كان يُحرِّكها المتسلِّط على الأمَّة بدون حقٍّ شرعي المستبد بسلطاتها، هذا الفكر الذي يتمثَّل في مجموعة من الأحاديث الموضوعة مثل ما ذكره وزوَّره الوضَّاعون على لسان النبي(ص) من قوله: {أطع كلَّ أمير وصلِّ خلف كلَّ إمام}، ومثل ما نسبوه إليه(ص) من حديث:{ من خرج عن إمامه شبراً فمات مات ميتةً جاهلية}. هذه الثورة التي جاءت لِتُفرِّق بين: أولاً- الفكر التقليدي، والفكر التجديدي.. الفكر التقليدي الذي يُركِّز في الأساس على العبادة الشكلية، دون التعمُّق في الحكمة منها، ومن تشريعها، في حين أنَّها شُرِّعت لتربية الإنسان وتهذيبه، والبُعد عن الإنحدار الخُلُقي والسلوكي، وقد جاء الحديث عن الرسول الأعظم(ص):{من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست بصلاة}. وفي نسخة أخرى:{ لم يزدد من الله إلا بُعداً}. فيأخذ صاحب الفكر التقليدي من الإسلام طقوسه المريحة، والتي لا تُكلِّفُه عناءً ولا مشقَّة، وأحكامه التي لا تلزمه بالقيام بأيِّ عمل، يأخذ من العبادة- مثلاً- الصلاة الشكلية ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنَّ كلاً واجب، ومُشرِّع الصلاة هو مُشرِّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مُشرِّع الجهاد، ولو أضرَّت الصلاة بهذا بعض الضرر، أو حمَّلته مشقَّة لتركها، فهذا الفكر فكر تجزيئي طقوسي اعتكافي عن قول كلمة الحق وإعلانها، ومثل هذا الفكر تخفَّى خلفه بعض المتستِّرين خوفاً وهروباً عن الخروج مع الحسين(ع)، وقد قال صاحب هذا الفكر لمَّا جاءت خلافة يزيد المزوَّرة والمفروضة فرضاً على الأمَّة، قال في الوقت الذي هو شرعاً مُطالب بموقف، وتصريح، وإعلان رأي ورفض، قال:{ أما أنا فعليَّ بلزوم المحراب وتلاوة القرآن}. أما صاحب الفكر التجديدي التغييري فلا يُفرِّق- وهو يعبد الله ويؤدي طقوسه الدينية وتكاليفه الشرعية بين الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في هذا الفكر التجديدي التغييري هذا الفكر الأصيل ليست العبادة بكثرة الصلاة والصيام، وإنما العبرة في العمل بالإخلاص، فهناك يكون الصمود والثبات، أما مجرَّد العبادة الشكلية فإنَّ التجربة ستكشف الأغطية عن صاحبها وتظهره على حقيقته، وكما قال الإمام الحسين(ع):{ الناس عبيد هذه الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون}. وجاءت ثورة الحسين(ع)- ثانياً- لِتُفرِّق بين الفكر النظري والفكر العملي... الفكر النظري، الذي يجعل صاحبه يعيش على الهامش، وفي عالم الألفاظ فقط، فدائماً يعيش مع الشعارات، ومع كلمات الولاء والفداء، يا ليتنا كنَّا معكم فنفوزَ فوزاً عظيما، أرواحنا لكَ الفداء وأنفسنا لك الوقاء. بأبي أنت وأمي. لكنَّه حينما يمرّ بالتجربة، فيحتاج الإسلام إلى موقف، وتحتاج الـقضية إلى تضحية، إلى مغامرة، إلى تخلّي عن مصلحةٍ شخصيةٍ تجده على خلاف ما تقتضيه شعاراته وكلماته الرّنانة. وما أحسنَ ما يقول بعض الشعراء:
وكــلٌّ يدَّعـي وصــلاً بلـيـلى |
|
ولـيـلـى لا تُقِـرُّ لهم بذاكا |
إذا اشتبكــت دمـوع فـي خـدود |
|
تبيَّـن مـن بكى ممَّن تباكـى |
بينما صاحب الفكر العملي مُستعد للتعاطي مع القضية،ومع الساحة، ومع الواجب الشرعي حسب ما يتطلَّبه الموقف وتمليه عليه المصلحة، لذلك فهو دائماً وأبداً قارٌّ، صامد،
مهما هبَّت الأعاصير، وقامت الفتن، وتوالت المحن، وقد وقف أصحاب الفكر النظري أمام الحسين(ع) حينما ثار، متستِّرين بمثل: إنَّكَ لا تستطيع أن تفعل في بني أميَّة شيئاً.وقولهم: لئن قاتلتَ لتُقتلنَّ. وقول بعضهم:{ لا أرى لكَ إلا أن تُصالح.....}. أما الفكر العملي، فهو الذي يقف صاحبه الموقف الذي رسمه ويمليه عليه هذا الفكر، لذلك له موقفه من الأحداث، وله وجود في الساحة، لا يعرف الإنهزام والهروب والتواري تحت أيّ عنوان من العناوين التي تُستَغَل للإعذار والإعفاء. وهكذا جاءت ثورة الحسين(ع) للإصلاح، والتصحيح للمسيرة المنحرفة، مُسكِتة جميع الأصوات المضادة النشاز، معلنةً حرمة الصمت،وحرمة السلبية، وحرمة الإنهزام، ووجوب التحرُّك عندما تُداس القيم، ويُستخفُّ بالأمَّة، ويُعتدى على حريتها وكرامتها، وتُستَذَلّ. مفهمةً أصحاب الفكر الإنهزامي الذين يملي عليهم موقف الإنهزام الإعلام المعادي، والخوف والضعف النفسي، مفهمةً لهؤلاء بأنَّ الهزيمة خسران، وذل، وفضيحة، وإتاحة الفرصة للعدو أن يسحق خصومه، وأنَّ الصوت الذي يجب عليهم أن يُصغوا له ويستجيبوا له ليس الصوت المثبِّط، والمحبِّط، والمخذِِّل، والإيحاء المضلِّل، والذي يصوِّر الأعداء قوة لا تُقهر، وإنما هو الصوت الذي يقول:{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(آل عمران:139)، والذي يقول:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(محمد:من الآية7).{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (الحج: 40).والذي يقول:{ لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرَّاً}. أجل هو الصوت الذي يقول: قف بكلِّ قوَّتك أمام العدو. قف الموقف الصريح. لا تحدِّث نفسك بالإنهزام أبداً. وقد كانت لغة أهل هذا الفكر مع الحسين(ع) حينما تحرَّك تتلخَّص فيما يأتي:{ أما أنا فأدخل بيتي وأُغلق عليَّ بابي ولا أُبايع}. ويكتب إليه بعضهم:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (الروم:60) .
القضية المركزية:
وهكذا لنا وقفة حول القضية المركزية، وكما قلنا سابقاً، فإذا لم نكن مع الفلسطينيين في أراضي المواجهة فليس على الأقل من أن نعيش همومهم وآلامهم، ونرفع صوتهم في المحافل، فماذا يجري في أرض المقدَّسات؟. أمريكا تطالب إسرائيل بالإنسحاب من أراضي السلطة؟ هل اقتنعت أمريكا الآن بأنَّ ما يفعله الصهاينة هو أجرام وإرهاب؟ هل هذا الطلب هو إنقاذ للشعب الفلسطيني، أم هو إنقاذ لشارون؟ أين كانت أمريكا حين كان الصهاينة يقتحمون البيوت والمخيَّمات ويقتلون ويُدمِّرون وكأنَّهم يتعاملون مع حشرات، بمرأى من العالم على شاشات التّلفاز!! وما هذا الإنسحاب؟ انسحاب بعد قتل المئات واختطاف الآلاف، ثم هجوم يأتي في اليوم التالي!!!
أقول: هذا الإنسحاب يحدث لأمرين مرفوضين: الأول: إنقاذ حكومة شارون من السقوط. الثاني: التحضير لضربة عسكرية للعراق. وهذان الأمران مرفوضان، فالأول يخدم الإحتلال، والثاني إرهاب يُغرق المنطقة في مستنقع خطر، ويُدمِّر الشعب العراقي الذي ما زال يُعاني من الحصار.
في الختام:
تحية إجلال للمجاهدين الشرفاء الذين يدافعون عن كرامة الأمَّة الإسلامية، والذين هم سرّ الإنتصار. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.وإلى أرواح شهدائنا الأبرار وجميع أموات الأمة الإسلامية رحم الله من قرأ الفاتحة تسبقها الصلوات على محمد وآل محمد.