شيخنا الجليل.. عبدالأمير الجمري

تاريخ النشر:  الأحد 14 يوليو 2002,  تمام الساعة 02:56 صباحاً  بالتوقيت المحلي لمد ينة الدوحة

جريدة الشرق www.al-sharq.com

محمد فاضل

سمعت عن اسمه مثل غيري من البحرينيين للمرة الأولى في العام 1973 عندما انتخب نائبا في المجلس الوطني، لم اكمل الخامسة عشرة في ذلك الحين، وكان يتعين عليَّ الانتظار حتى هذا العام وانا ادخل عامي الثالث والاربعين لكي اعرف الشيخ عبدالامير منصور الجمري عن قرب، لكي اعرف واحدا من الرجال النادرين الذين يملكون من التأثير الشيء الكثير ليتركوه في اجيال من الناس.

لست هنا لأدعي بانني قريب منه، لكنني حظيت بشرف لقائه غير مرة وبالحديث معه واجراء اكثر من حديث صحفي معه وزيارته في مجلسه الاسبوعي. لكن الشيخ الجليل يبدو اكبر من ان يترك اثرا شخصيا في نفس شخص حظي بتعامل ابوي من قبل رجل دين وزعيم سياسي في الوقت نفسه.

فالاقتراب من شخصية شيخنا الجليل يمكن ان يتم على اكثر من نحو. فهو الذي ملأ الاسماع في النصف الثاني من التسعينات وثمة الكثير من القصص والاحداث والمقولات التي يمكن ان تروى عنه. لكن الحديث عن هذا الشيخ يبدو ملتبسا على الدوام وعصيا على الحدود ولا مجال لحكم قطعي للحديث عن الشيخ عبدالامير بن منصور الجمري كرجل دين وزعيم سياسي.

ان خصاله الشخصية تتماهى مع أدواره التي اختطها لنفسه كرجل دين منذ البداية وزعيم سياسي، واول ما استوقفني هنا هو قصة رواها لي صديق كان طرفها شيخنا الجليل. لقد جاءت هذه القصة لتؤكد من زاوية اخرى الانطباعات التي تكونت لديَّ عن الشيخ الجمري وهي انطباعات مستخلصة من تجربة معايشتنا له كرجل دين وزعيم سياسي. لقد التقى هذا الصديق بالشيخ الجمري في الثمانينات عندما كان الشيخ مايزال قاضيا في المحكمة الجعفرية. لقد توجه صديقي مع والده وبعض اخوته من اجل اتمام اجراءات تتعلق بهبة وميراث، وكان بقرب الشيخ الجمري قاض جعفري آخر هو الذي اجاب على تساؤلات والد الصديق حول الاجراءات والضوابط الشرعية للعملية. ويكمل الصديق قائلا: "لم يفهم والدي ما قاله القاضي الذي تحدث بلغة فقهية محض، ولحظ الشيخ الجمري حيرة والدي، فما كان منه سوى ان بادر والدي بالسؤال قائلاً: يا حاج هل فهمت ما قاله لك القاضي..؟ واجاب والدي..بصراحة كلا يا شيخنا. فما كان من الشيخ الجمري الا ان تولى شرح الامر لوالدي بلغة سهلة وبسيطة استطاع من خلالها ان يوصل ما اراده القاضي الاخر بلغة فقهية مقعرة..لقد استشاط هذا القاضي غضبا عندما تولى الشيخ الجمري الشرح وخرج من المكان.. وفي النهاية، اعاد الشيخ الجمري السؤال على والدي قائلا: هل فهمت الان يا حاج..؟ فما كان من والدي سوى ان يرد بالايجاب والشكر للشيخ الجمري".

تقدم هذه القصة ملمحا اولا لشخصية الشيخ عبدالامير الجمري في جانبها المحوري كرجل دين بالدرجة الاولى. فهو ليس من ذلك النوع الذي تستهويه إعادة تلاوة النصوص، بل استيعابها وشرحها للناس بلغة تناسب مداركهم. وهذه الخصلة لا يتمتع بها سوى اولئك الذين يمتازون بالتواضع سواء أكانوا رجال دين ام اشخاصا آخرين. وفيما خصه كرجل دين، فانه هنا يذكرنا بالفارق بين رجال الدين انفسهم ومدى قدرتهم على التخاطب مع الناس. ففيما يروي الناس قصصا عن مواقف صادفتهم مع رجال دين لا يبدون سوى عبارات التبرم والاستعاذة من الشيطان حتى لرؤية النساء المتحجبات، فان هؤلاء يدركون الفارق فورا بتعاملهم مع رجال دين من امثال الشيخ الجمري.

انه يذكرنا هنا برجال دين آخرين مثل الشيخ عبداللطيف المحمود والشيخ عدنان القطان اللذين يمتازان بالسماحة والود وهما خصلتان تعكسهما قسماتهما التي لا يعلوها اي تشنج. لقد ذهب الشيخ عبداللطيف المحمود للدراسة في الازهر وهو صبي صغير، اما الشيخ القطان وهو صديق منذ ايام المدرسة، فقد تميز بالتقوى والورع مذ كان صبيا، على هذا فان الورع والتقوى خصال مؤصلة في شخصيات مثل شيخنا الجمري والشيخ المحمود والشيخ القطان وليست مفتعلة عندما لا يخطئها الادراك في الكثير من رجال الدين. اكتب عن هؤلاء لان الظروف سمحت لي بالاقتراب منهم واحدهم صديق قديم، لكن مثالهم كاف لكي تصبح المقارنة شاخصة وفي نهاية المطاف فان العبرة ليست في التبحر في العلوم بل في الخصال الشخصية التي ستقرر كيف سيتعامل المتبحر فيما حازه من علوم.

لكن التواضع خصلة متممة لخصلة اخرى هي المحبة، فاولئك الذين تحركهم دوافع المحبة للناس هم الذين يتمثلون التواضع بجدارة ودون اصطناع. ولن نلبث ان نرى وندرك ان هؤلاء الذين يتمتعون بطاقة محبة في انفسهم، هم الذين سيفتنون من حولهم بصفات ومميزات استثنائية اخرى. يعرف البحرينيون عن الشيخ الجمري ميله للاعتدال والوسطية، وسيتعين علينا ان نقدر عاليا هذه الخصلة في شيخنا الجليل عندما يصبح بابه في اوقات ما هو مقصد الساعين نحو الاجماع والتوافق. ألهذا لم يكن من شخص أنسب واجدر من الشيخ الجمري لكي يتحدث في جمعية الاصلاح بالمحرق برفقة رئيس الجمعية الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة وعبدالرحمن النعيمي كرمز من رموز التيار الوطني، معبرا عن لحظة توافق تاريخي بين طائفتي هذا البلد الرئيسيتين الشيعة والسنة ومكرسا لهذه التوافق؟. لقد ابلغ الشيخ الجليل الرسالة واضحة دونما لبس عندما اعلن "أن الشيعة لم يفكروا في يوم في استلام الحكم". ليس أجدر من الشيخ الجمري لكي تبدو العبارات والرسالة متمثلة كل المصداقية ولكي تكتسب قيمتها المعنوية والتاريخية، فهو يحوز ثقة الجميع. ويمكن ان يقلب المرء كلماته وعباراته في تلك الليلة على اكثر من وجه، وهي في النهاية ستجعل الجميع يركن الى القناعة نفسها بأنها رسالة تتجاوز تأكيد الاخاء بين البحرينيين سنة وشيعة الى ماهو ابعد من ذلك ايضا، الى رسالة اخاء للجميع جاءت بعد سنوات عصيبة ورسالة مطمئنة للسلطة الحريصة على التوافق والهدوء وسط الناس في لحظات مثل تلك التي اعقبت التصويت على ميثاق العمل الوطني في فبراير من العام الماضي.

على هذا فان الملمح الاهم في شخصية شيخنا الجليل (عافاه الله) هو انه شخصية اجماع. ومثل هذه الشخصيات لا تحظى بمثل هذه المكانة الا لأنها تستطيع فرض نفسها دونما الحاح ودونما اصطناع. لربما ينفع التذكير بأن شخصيات من هذا النوع هي شخصيات نادرة. ومع شخص في مثل مكانة شيخنا الجليل، تبدو طيبته وسعة صدره وأفقه وسماحته تعبيرا عن خصال شخصية متأصلة قبل ان تكون جزءاً من تقاليد او تعاليم تفرضها عليه مكانته كرجل دين او زعيم سياسي.

وهو بقدر ما تحيط به هالة ووقار رجال الدين، فهو اكثر من سيذكرنا بالحاجة المستمرة لسعة الصدر والافق والسماحة الحقيقية والتواضع في رجال الدين. وبقدر ما رفعته آلامه وتضحياته الى مرتبة الزعيم السياسي، فهو يبدو كمن يمارس السياسة بصفاء وحسن نية، لنقُلْ: بأسلوبه الخاص. وتبدو هذه الخصوصية الملازمة له تعبيرا طبيعيا عن خصاله بالدرجة الاولى. على هذا، انتزع الشيخ الجليل الاعجاب مجددا وبجدارة لم يلحظها الكثيرون عندما صعد المنبر في فبراير الماضي وعبر عن موقفه من التعديلات الدستورية لكن بنقد الذات.

في هذا تتبدى لنا صورة زعيم سياسي من طراز نادر وهو هنا يقدم اسلوبه الخاص في ممارسة السياسة ولست بحاجة للتأكيد على ان الاعجاب مرده هنا هو ان شيخنا يقدم بجرأة على ممارسة ما هو استثنائي ونادر في ناموس السياسة.

اين هم اولئك الاستثنائيون..فنحن بحاجة ماسة لهم؟. فالنقد الذاتي ليس موجودا في قائمة الزعماء السياسيين لا في بلادنا ولا في اي بلد عربي على الاقل. لقد اعتذر شيخنا الجليل للمصلين بل وللبحرينيين واستغرق هذا خطبته كلها وبإمكاني ان ادخل في جدل يمكن ان يستمر اياما مع من يريد ان يحاجج بأن ثمة زعيماً سياسياً أو رجل دين حتى اقدم على نقد ذاته امام المصلين على هذا النحو البليغ من الصفاء وحسن النية في عصرنا هذا.

ليست هذه الخطبة التي يمكن ان تنتزع اعجابنا بالشيخ، فخطبه التي أستلمها بانتظام عبر البريد الالكتروني من مكتبه كل يوم سبت، كفيلة بالافصاح عن اهم ما يميز الشيخ الجمري. ان خطبه تخلو من عبارات الزجر والقطع، بل ان عباراته تتلبس دوما ثوب النصيحة والارشاد. ليس فيها اي مفردات توبيخ ولا تضج بالوعيد ولا بالتحريض. انه يذكرني على نحو ما بذلك القاضي الدمشقي الجليل الراحل الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله. لقد كان الشيخ الطنطاوي هو الوحيد الذي يدفعني للاستماع اليه في برنامجه في التلفزيون السعودي على مدى سنوات. وايا كان محور الحديث لدى الطنطاوي او الجمري، فليس امامنا سوى ان يخرج المرء بشعور هو مزيج من الاطمئنان ورغبة في التأمل. فاجابات الطنطاوي على سائليه تستثير فينا الرغبة في التأمل والتفكر اكثر مما تستثير فينا الخوف من العواقب، اما احاديث الشيخ الجمري من على المنبر، فهي تفعل الشيء نفسه لان الاثنين يخاطبان ذكاء المستمعين والمصلين لا يستثيران مخاوفهم. على هذا فان خطب الشيخ الجمري تتميز بطابع النصيحة دونما وصاية ولا تضج بمفردات الوجوب والينبغيات اللهم الا في المبادىء الاساسية، اخلاقيا وسياسيا. ان مفرداته تفيض بالابوة، واكثر المفردات التي تتردد في خطبه هي "ايها الاحبة" التي لشد ما يكررها ويحافظ عليها نظن للحظة أننا نستمع لحديث عائلي حميم.

على هذا، ستقدرون حتما مشاعري في هذه اللحظة وانا اكتب عن الشيخ عبدالامير منصور الجمري واستذكر معه الشيخ الراحل علي الطنطاوي.. فالشيخ الجمري على سرير المرض وليست سوى آلامه التي تدفعني للحديث عنه بمثل هذه الافاضة، لربما تعبيرا عن مسيس حاجتنا له ولرجال دين وقادة نادرين من امثاله. وليس لي الآن سوى الدعاء له بالشفاء والعودة الينا معافى والامل بأن يطبع مثاله وخصاله تفكير اقرانه وتفكير مجتمع مازال يتلمس طريقه للمستقبل.